د. أيمن خالد
كاتب وإعلامي عراقي
منذ ولادة القانون الدولي الحديث، وتحديدًا منذ عام 1945 مع تأسيس الأمم المتحدة، راودت البشرية فكرة غير مسبوقة: هل يمكن للعدالة أن تقيّد الحرب؟ وهل يُمكن اعتبار الحرب العدوانية جريمة تستتبع محاكمة قادتها؟
لأول مرة في المحيط الدولي، وتحديدًا في محاكمات نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية، طُبِّق مبدأ قانوني بات لاحقًا ركيزة للعدالة الدولية: “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، رغم أن المبدأ كان مستخدمًا في القوانين الجنائية الداخلية منذ قرون، لكن بمرور العقود ووسط تحولات توازنات القوة في العالم، أصبح النص موجودًا والجريمة موثقة، لكن العقوبة غائبة أو مؤجلة أو مشروطة بموافقة القوى العظمى.
تعريف قانوني لا تنقصه الصرامة
وفقًا للمادة 8 من نظام روما الأساسي (1998) الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، تشتمل جرائم الحرب على مجموعة من الأفعال الجسيمة، من بينها القتل العمد، والتعذيب، وتدمير الممتلكات المدنية دون ضرورة عسكرية، وتهجير السكان، واستخدام الأسلحة المحظورة، والاستيطان القسري، ونقل السكان بالقوة. وتُعد هذه الانتهاكات إخلالًا صريحًا بالقواعد الآمرة في القانون الدولي، وهي القواعد التي لا يجوز لأي دولة أن تخرقها أو تتجاوزها، حتى بموجب اتفاقات متبادلة.
لكن على أرض الواقع، حين ترتكب القوى الكبرى أو حلفاؤها هذه الجرائم، تتوقف العجلة القضائية. العدالة تتحول إلى مشروع مؤجل أو وهم مسيّس. ليست القضية غيابًا في الأدلة، بل غياب في الإرادة. ففي العام 2020، سعى مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق رسمي بشأن انتهاكات ارتكبتها القوات الأميركية في أفغانستان، تتضمن التعذيب والقتل خارج نطاق القانون، لكن إدارة ترامب ردت بسحب تأشيرة المدعية العامة فاتو بنسودا وفرض عقوبات مباشرة على موظفي المحكمة.
وفي مارس 2023، أصدرت المحكمة مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهمة ترحيل الأطفال من أوكرانيا، استنادًا إلى قواعد الحماية الدولية للمدنيين. غير أن القرار لم يُنفذ، ولم تجرؤ أي دولة –حتى من أعضاء المحكمة– على تفعيله. ما يشير إلى أن آليات القوة ما زالت تتفوق على قواعد القانون.
ينص ميثاق المحكمة على ثلاث وسائل فقط لفتح التحقيقات (المادة 13): عبر دولة عضو، أو المدعي العام بموافقة القضاة، أو إحالة من مجلس الأمن. وهذا الأخير غالبًا ما يُستخدم لتعطيل العدالة عبر “الفيتو” السياسي، كما في القضية الفلسطينية، حيث أحبطت الولايات المتحدة مرارًا أي مسعى دولي للتحقيق الجاد في جرائم إسرائيل.
فلسطين: عُري القانون أمام وقائع الجريمة
إن القضية الفلسطينية تُمثل الشاهد الأبقى على عجز العدالة الدولية. فمنذ اجتياح غزة عام 1956، وحتى حرب “طوفان الأقصى” 2023–2025، تكررت أنماط الانتهاكات: قصف للمدارس والمستشفيات، استهداف لمراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، استخدام للفوسفور الأبيض، وتدمير للبنية التحتية المدنية. ورغم وجود مئات الشهادات الموثقة من منظمات كـ”هيومن رايتس ووتش” و”أطباء بلا حدود” و”الأونروا”، لم تحرك المحكمة ساكنًا، بل بقيت بياناتها رمادية المضمون، تتحدث عن مسؤوليات متبادلة في مشهد لا تكافؤ فيه.
وقد صرّح القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون، الذي ترأس بعثة تقصي الحقائق حول حرب غزة 2008–2009، بأن “ما جرى في القطاع قد يرتقي إلى جرائم حرب”، ثم واجه لاحقًا حملة ضغوط هائلة دفعت به إلى التراجع الجزئي عن استنتاجاته، في ما اعتبره كثيرون نتيجة مباشرة لتأثير “اللوبيات” السياسية في عمل الهيئات القضائية الدولية.
وقد شهدت تقارير الأمم المتحدة نفسها –رغم ما يُعرف عنها من تحفظ– توصيفات واضحة للانتهاكات في غزة بأنها “منظمة” و”ممنهجة” وذات طابع قد يرقى إلى جريمة إبادة. ومع ذلك، بقيت هذه التقارير خارج طاولة الإجراءات القضائية، مما يعزز الشك في ما إذا كانت المؤسسات القانونية الدولية لا تزال تملك قدرة حقيقية على فرض ردع أو مساءلة، أم أنها أُفرغت تدريجيًا من محتواها تحت سطوة النظام الدولي القائم على ازدواجية المعايير.
هذا العجز لا يقتصر على فلسطين. فجرائم موثقة في العراق، البوسنة، سوريا، رواندا، كلها تثبت أن العدالة الدولية تُمارَس حين لا تعارض مصلحة القوى الفاعلة. أما حين تُهدد تلك المصالح، تُؤجل العدالة، وتُعلّق الملفات.
فمن يدير المشهد إذًا؟ السياسي أم القانوني؟ القانون الدولي يُفترض أن يكون هو المنظّم للعلاقات الدولية، لكن الواقع يقول إن السياسة ما زالت تتحكم في أبواب المحاكم.
رغم ذلك كله، لم تُغلق أبواب الأمل. لقد بات التوثيق الرقمي واسعًا، وباتت الصور والمقاطع تنتشر بثوانٍ. كما أن مبدأ “الاختصاص العالمي” الذي يسمح بمحاكمة مرتكبي الجرائم في محاكم دول أخرى، بدأ يستعيد نشاطه في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا.
لكن من دون إصلاح بنيوي يجعل المحكمة الدولية مستقلة فعليًا عن القرار السياسي، سيبقى الضحية متهمًا، والجاني حرًّا، والقانون أداة تزيين لشرعية الغلبة.
وإلى أن يتحقق هذا الإصلاح، ستبقى غزة، ومعها ذاكرة العراق وسوريا والبوسنة، تذكرة يومية بأن القانون بلا تنفيذ شهادة زور، وأن الجريمة بلا عقوبة، هي تصريح مفتوح بإعادة ارتكابها.