بقلم: ياسر أبو هلالة

 

أولاً، التركيع والتطبيع والتوقيع من دون إعادة أيّ من حقوق الشعب السوري في أرض هضبة الجولان (وإعادة مليون نازح)، ولا في جبل الشيخ ومزارع شبعا وشواطئ طبرية الشرقية. يعني التخلّي عما يعرف بـ"وديعة رابين". يُسوَّق ذلك في إطار اتفاق "وقف الاعتداء"، وهو اختراع نتنياهوي لا سابقة له في تاريخ البشرية، يعني شرعنة الاعتداء الدائم احتلالاً وتهجيراً، مقابل وقف الاعتداء المؤقّت، واعتبار الدفاع عن القانون الدولي اعتداءً، والتوقيع على ذلك.

ثانياً، في حال رفض التركيع، تتواصل "الحرب الأبدية" ضدّ سورية وتحويل الدولة وجيشها وأمنها فصيلاً "إرهابياً"، مثل حزب الله وحركة حماس، تضربه إسرائيل متى شاءت، في مطاردة ساخنة، والغرض ضرب الاستقرار في سورية، بمنع قيام الدولة، وتقسيمها وفق منطق "تحالف الأقلّيات"، فيصل الجيش الإسرائيلي إلى كلّ كائن أقلّوي يشعر بالخوف من الدولة، ما يعني ضرب الاستقرار والاستثمار.

بحسب السفير الأميركي روبرت فورد، في محاضرته التي أُلقيت ونشرت عبر قناة مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية على "يوتيوب"، وهاجمها كثيرون من دون أن يستمعوا إليها، إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي لا يريد الاستقرار في سورية. على الرغم من الرسائل الإيجابية من خلال ضبط النفس واستقبال يهود سوريين والسماح لهم بترميم معابدهم.

ووجّه نقداً لاذعاً لإسرائيل التي لم تقصف خلال الثورة السورية، مع قصف نظام الأسد مناطق معارضة بالكيماوي والبراميل، أي قواعد جوية ولا معسكرات طوال حكم الأسد، وفعلوا هذا بعد سقوطه.

ويقول بوضوح إن إسرائيل تريد سورية "ضعيفةً مقسّمةً". في المقابل، يتحدّث عن الأتراك أنهم أصدقاء كبار لسورية، وإنهم القادرون على مواجهة إسرائيل. ويتحدّث عن مخاوفه بشأن صراع تركي إسرائيلي، باعتبار أن إسرائيل قوة عسكرية طاغية، وتركيا قوة عسكرية صاعدة، وعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو). ... تحتاج الدولة السورية، بعيداً من المزايدات والمناقصات، إلى حماية من العدوان الإسرائيلي القديم والجديد. حتى لو أريد لها أن تكون دولةً منزوعة السلاح مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية. حسناً، تقام قواعد عسكرية تركية في سورية، وهي بلد عضو في "ناتو"، لحمايتها من الاعتداءات، وفوق ذلك تبقى قاعدة أميركية لحمايتها من إسرائيل، وإيران أيضاً، أو السماح لها مثل كلّ دول العالم ببناء جيش قوي.

لا يفهم نتنياهو قصّة العدو الإيراني المشترك، ومن يتابع الإعلام الإسرائيلي، ويستمع إلى المسؤولين الأميركيون الموالين لإسرائيل (مسؤول مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض مثلاً)، يدرك أنهم يرون في الرئيس أحمد الشرع تجميعاً ليحيى السنوار وصدّام حسين. أقنع السنوار نتنياهو أنه يريد حكم غزّة، ففاجأه بهجوم السابع من أكتوبر 2023، وصدّام أوهم الغرب أنه يحارب إيران، وفي الحقيقة كانت عدوّه إسرائيل. وللتذكير، في أوج الحرب العراقية الإيرانية ضرب الطيران الإسرائيلي مفاعل تمّوز النووي (1981)، وكان صدّام الرئيس العربي الوحيد الذي حاول الموساد اغتياله. وللتذكير، الحاكم العربي الوحيد الذي قصف الطيران الإسرائيلي قصره هو أحمد الشرع، رغم كلّ رسائل التطمين.

وفي سياق رسائل التطمين، منح الرئيس السوري أحمد الشرع مقابلةً لجوناثان باس، من "المجلة اليهودية" (Jewish Journal)، وهي صحيفة تصدر في لوس أنجليس، وتُعدّ من أبرز المنصّات الإعلامية المعنية بشؤون الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم، ولم يحصل الصحافي على ما يريده من التزام بالتطبيع والسلام، وخلط أعداء الشرع بين تحليله الصحافي وأمنياته وما قاله الشرع. في المقابلة أكد باس نصّاً: "ورغم أنه لم يقترح تطبيعاً فورياً، إلا أن الشرع لمّح إلى انفتاح على محادثات مستقبلية تستند إلى القانون الدولي والسيادة". يعني "لمّح" تحوّلت شراكةً أمنيةً مع إسرائيل لمواجهة إيران (حسب جماعة المحور)؟ وفوق ذلك، اعتبر أن موضوع الدروز "غير قابل للتفاوض". يقول باس: "أبدى رغبته في العودة إلى روح اتفاق فكّ الاشتباك لعام 1974، ليس فقط خطّاً لوقف إطلاق النار، بل أساساً لضبط النفس المتبادل وحماية المدنيين، خصوصاً مجتمعات الدروز في جنوب سورية وهضبة الجولان". ويقتبس باس من الشرع: "دروز سورية ليسوا بيادق. إنهم مواطنون، راسخون تاريخياً، أوفياء، ويستحقّون كلّ حماية بموجب القانون". أمنهم غير قابل للتفاوض. قال: "أريد أن أكون واضحاً، عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي يجب أن ينتهي. لا تزدهر أمّة وسماؤها مليئة بالخوف. الحقيقة أننا نملك أعداء مشتركين، ويمكننا أن نلعب دوراً رئيساً في الأمن الإقليمي". لقد سبق أن لعب صدّام حسين على ورقة الأعداء المشتركين إلى آخر يوم قبل الحرب الأميركية، وحارب إيران ثماني سنوات. وفي الحقيقة كان هو وإيران "الأعداء المشتركين" وليس العكس.

لا تحتاج سورية اليوم إلى من يورّطها في مواجهة خشنة مدمّرة مع نتنياهو، ولا إلى تطبيع مدمّر ناعم، بقدر ما تحتاج وقفةً صادقةً من حلفائها لوقف العدوان عليها، وصولاً إلى إعادة حقوقها التاريخية. كيف يمكن المواءمة بين رفع العقوبات وجلب الاستثمارات في ظلّ الاعتداءات؟ وكيف يمكن الحفاظ على شرعية الدولة الثورية التي قدّمت مليون شهيد في سبيل الكرامة، في ظلّ فرض التركيع والتطبيع والتنازل عن حقوق الشعب السوري؟... يحاول "الأعداء المشتركون" دفع العهد الجديد في سورية باتجاه إسرائيل لنزع شرعيته وإظهاره خائناً وعميلاً صهيونياً، وهم أنفسهم من يقبلون سكوت حزب الله، وهو حركة مقاومة وليس دولةً، على الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة عليه ولا يردّ بطلقة، يشنّون الحملات على العهد الجديد في سورية عندما لا يردّ على الاعتداءات الصهيونية. العداء للصهيونية مسألة مبدئية أخلاقية، وليست دعايةً سياسيةً للترويج أو التشويه. فمن يقف ضدّ الصهيونية عندما تعتدي على كنيسة القيامة، يقف ضدّها عندما تعتدي على المسجد الأقصى، ومن يقف ضدّ الصهيونية عندما تعتدي على حزب الله، يقف ضدّها عندما تعتدي على "حماس" أو الدولة السورية أو اليمنية.

تظلّ الورقة الأقوى بيد الدولة السورية موقف شعبها، مشهد هجوم الأبطال السوريين العزّل على الدورية الإسرائيلية في القنيطرة، وإنزال العلم الإسرائيلي ودوسه وحرقه عبّر عن شجاعة وذكاء ووعي. فلم تتمكّن الدورية من الاشتباك مع العزّل، ولو كان فيهم مسلّح لكرّرت مجزرة الكويا، التي استشهد فيها ستة شبان تصدّوا بسلاح خفيف للدورية الغازية.

‏مقابل هذه المقاومة الشعبية، توسوس أصوات نشاز تزعم الانتساب للثورة بنظرية نتنياهو في التطبيع. من المفيد للدولة السورية الاستثمار في الورقة الشعبية، وهي تحتاج تأطيراً وتنسيقاً، للجان لنازحي الجولان، ولجان للاجئين الفلسطينيين، وللتضامن مع غزّة... لا أنسى يوماً التقيت فيه اللواء إلياس رزق في مشروع بحثي عام 2009، وكان عضواً في الوفد السوري المفاوض، عندما سألته عن عدد نازحي الجولان، فقال: مليون. سألته لماذا لا يخرجون مظاهرات تطالب بالعودة. لم يُجب. اليوم مفترض أن يخرجوا.

ليس الحديث عن مركزية القضية الفلسطينية تكراراً لما كان يردّده الرئيس أحمد الشرع في إدلب، ولا قادة هيئة تحرير الشام، بقدر ما هو توثيق لموقف الدولة السورية منذ تأسيسها. فكلّ العهود في سورية تبنّت المواقف العربية في مركزية القضية الفلسطينية، ‏وإضافة إلى الأعداء يحاول بعض الحلفاء بحسن نيّة إلقاء العبء على الدولة السورية، وتتنوع نصائحهم إلى درجة التناقض، فثّمة من ينصح بتجنب التفاوض المباشر مع العدو، وإسناد ذلك إلى الحلفاء، مقابل من ينصح بالتفاوض المباشر بشكل سرّي أو علني. والأسوأ من ذلك كلّه من ينصح بالتوقيع والتركيع ونسف شرعية دولة الثورة، ثورة الكرامة أمام المستبدّ والمحتلّ.