في مشهد يتكرر يومًا بعد يوم، لا تحمل طوابير الانتظار في قطاع غزة سوى احتمالين مريرين: إما النجاة بطرد غذائي يسد الرمق، أو الاستشهاد برصاصة قناص أو قذيفة دبابة.
وتحوّلت مناطق توزيع المساعدات الإنسانية في شمال ووسط وجنوب القطاع إلى ميادين قتل مفتوحة، بعد أن استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي آلاف المدنيين المتجمهرين طلبًا للطعام، ما أوقع عشرات الشهداء ومئات المصابين، في واحدة من أبشع حلقات الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة.
قصف على طوابير الجوعى
فجر الأربعاء، كثّف جيش الاحتلال قصفه المدفعي وعمليات نسف المنازل في مناطق متفرقة من غزة، بالتزامن مع إطلاق نار مكثف على المدنيين المتجمعين قرب نقاط توزيع مساعدات غذائية.
وأفاد شهود عيان أن آلاف المواطنين احتشدوا عند شارع صلاح الدين قرب محور نتساريم في محاولة للحصول على طرود غذائية، قبل أن تفتح دبابات الاحتلال نيرانها دون سابق إنذار، موقعة عشرات الضحايا.
وقال أحد الشهود: "فيه ناس انقتلت وفيه مصابين، لكن بسبب القصف وإطلاق النار المتواصل، مش قادرين نسحبهم. اللقمة المغمسة بالدم بدناش إياها".
شاهد آخر أكد أن الزحام بدأ في ساعات الفجر الأولى: "جينا من بدري عشان نلحق كرتونة، لقينا آلاف الناس، وقبل ما نوصل للبوابة، الدبابات فتحت النار، وصرنا نهرب بين الناس".
ضحايا بالرصاص والقذائف
وفي مستشفى العودة بمخيم النصيرات، أفاد مصدر طبي بوصول أكثر من 10 جثث و70 إصابة، معظمهم برصاص حي في أنحاء متفرقة من أجسادهم، وأضاف أن سيارات الإسعاف غير قادرة على الوصول للضحايا بسبب خطورة المنطقة.
وفي شارع الرشيد جنوب غرب مدينة غزة، فتحت الزوارق الحربية نيرانها على مئات المدنيين المنتظرين لدخول شاحنات المساعدات، مما أدى لسقوط 7 قتلى وعدد من الجرحى، وفق مصدر طبي بمستشفى الشفاء.
وقال أحد الناجين: "أصبحنا مجبرين نخاطر بحياتنا لنأخذ الطحين أو الكرتونة، لا شغل ولا فلوس، عنا أطفال بدهم ياكلوا".
أكثر من 110 ضحية في ساعات
أعلنت وزارة الصحة بغزة أن المستشفيات استقبلت أكثر من 110 قتيل وجريح خلال 24 ساعة فقط، بينهم 75 سقطوا أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات إنسانية، وسبق أن تعرضت مراكز التوزيع في رفح ووسط القطاع لهجمات مشابهة خلال الأسابيع الماضية، راح ضحيتها مئات الفلسطينيين.
وتتولى مؤسسة "غزة الإنسانية" الممولة أميركيًا توزيع المساعدات، بعد حصار إسرائيلي دام 3 أشهر، لكن العمليات باتت تجري في ظل فوضى وغياب أمن كامل، وسط استمرار الاستهداف الإسرائيلي لمواقع التوزيع.
تصعيد بري وتفجير المربعات السكنية
في الوقت ذاته، وسّع جيش الاحتلال عمليات التوغل البري في عدة مناطق، أبرزها أحياء الشجاعية والتفاح شرق غزة، وجباليا شمالًا، مستخدمًا العبوات الناسفة والروبوتات لتفجير المنازل، حيث سُمع دويّ أكثر من 7 انفجارات متتالية تسببت في تصاعد أعمدة الدخان بكثافة.
وفي الجنوب، فجّرت القوات الإسرائيلية مربعات سكنية كاملة في مدينة حمد وبلدة القرارة، بعد إصدار أوامر بإخلائها، ثم توغلت الدبابات بشكل مفاجئ، وحاصرت مواطنين داخل سياراتهم وسط انقطاع الاتصال وانعدام المعلومات حول مصيرهم.
قطع الاتصالات والإنترنت مجددًا
تسببت عمليات التفجير المتكررة في شرق خانيونس في تدمير شبكات الاتصالات الرئيسية، ما أدى لانقطاع الاتصالات والإنترنت في جنوب القطاع للمرة الثالثة خلال أسبوع.
وقال مصدر في شركة الاتصالات الفلسطينية إن الهجمات باتت ممنهجة، وتستهدف البنية التحتية مباشرة، مما أدى إلى بتر ساق أحد الفنيين خلال عمله في إصلاح أعطال.
وأضاف أن طواقم الشركة تعمل في ظروف بالغة الخطورة، مع نقص حاد في المعدات ومنع إدخال المستلزمات الأساسية بسبب إغلاق المعابر من قبل الاحتلال.
العدوان مستمر... والمساعدات تتحول لفخاخ موت
منذ أن استأنف الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الشامل على غزة في 18 مارس الماضي، بعد رفض اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان يفترض أن يبدأ بتبادل الأسرى وينتهي بانسحاب إسرائيلي كامل، باتت مناطق القطاع تشهد تصعيدًا متواصلاً يتمثل في القتل والتجويع والتدمير المنهجي للبنية التحتية.
وباتت "المساعدات الإنسانية" في غزة عنوانًا مفجعًا لمجازر يومية جديدة، إذ تحوّلت نقاط توزيع الغذاء إلى مصائد موت حقيقية، يختلط فيها الجوع بالدم، وتتحول فيها أبسط مقومات الحياة إلى مخاطرة لا يعود منها الكثيرون.