تشهد منظومة التعليم العالي تحوّلاً جذريًا يُنذر بتفكيك أحد أهم مكتسبات الدولة الاجتماعية: التعليم الجامعي المجاني. ففي وقتٍ تُواجه فيه الحكومة أزمة تمويلية خانقة، تتجه السياسات الرسمية نحو التوسع في إنشاء الجامعات الأهلية والخاصة على حساب الجامعات الحكومية، وهو ما يصفه خبراء بأنه "خصخصة مقنّعة" للقطاع، يُلقي بأعبائه المالية على كاهل المواطنين، وينذر بإقصاء الفقراء من التعليم الجامعي.

 

توسع غير مسبوق في الجامعات الأهلية
قفز عدد الجامعات الأهلية في مصر إلى 32 جامعة مملوكة للدولة وتدار خارج منظومة التعليم الحكومي التقليدية، وذلك بعد توقيع عبد الفتاح السيسي قرارات بإنشاء 12 جامعة أهلية جديدة تدخل الخدمة اعتبارًا من العام الدراسي 2025-2026. ويأتي هذا التوسع وسط صمت رسمي عن قرار قديم صدر عام 2022 بوقف إنشاء أي جامعات حكومية جديدة، بحسب مصادر برلمانية، في توجه واضح لإحالة التعليم العالي إلى القطاع الخاص والأهلي.

في هذا السياق، وجّه وزير التعليم العالي أيمن عاشور خلال اجتماع مجلس الجامعات الأهلية في العاصمة الإدارية، بتسويق هذه الجامعات إقليميًا لجذب الطلاب الوافدين، في ظل توقعات بارتفاع عدد الملتحقين بالتعليم الجامعي إلى خمسة ملايين طالب بحلول 2030.

 

رسوم باهظة وتراجع للدور الحكومي
الجامعات الأهلية – رغم ملكيتها للدولة – تفرض رسومًا دراسية تُشابه أو تفوق ما تفرضه الجامعات الخاصة:

كلية الطب: 130 ألف جنيه سنويًا

العلاج الطبيعي والصيدلة: 90 ألفًا

الهندسة وعلوم الحاسب: 75 ألفًا

ويؤكد الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني أن هذه السياسات تمثل تراجعًا عن مبدأ دستوري راسخ، إذ ينص الدستور على أن التعليم العام "مجاني ومكفول للجميع"، مع تخصيص 7% من الموازنة العامة للتعليم، وهو ما لا تلتزم به الحكومة سنويًا.

وأضاف الميرغني أن العديد من الجامعات الحكومية باتت تجمع تبرعات قسرية من الطلاب والعاملين لصالح صندوق "تحيا مصر"، وتوسع برامج "الساعات المعتمدة" ذات المصروفات المرتفعة، كبديل عن التمويل الحكومي المتراجع.

 

"أهلية" ممولة من الدولة!
يطرح مدحت خفاجي، عميد معهد الأورام السابق، تساؤلاً جوهريًا حول جدوى تسمية هذه المؤسسات بـ"الجامعات الأهلية"، طالما أن تمويلها بالكامل يأتي من خزينة الدولة. ويرى أن الهدف الحقيقي هو إلغاء مجانية التعليم تدريجيًا عبر تحويل الجامعات الحكومية إلى كيانات أهلية أو خاصة، تدار بالشراكة مع مستثمرين.

ويشير إلى مشاكل عديدة تواجه هذه الجامعات، أبرزها:

نقص الكوادر العلمية بسبب سحب الأساتذة من الجامعات الحكومية.

مواقع نائية تزيد من الأعباء المالية على الطلاب.

انعدام البنية الطبية في بعض الجامعات التي تُدرّس تخصصات علاجية.

 

غضب طلابي وحوادث دامية
الوجه الآخر لهذا "التطوير"، يتجلى في احتجاجات طلابية متكررة على الأوضاع المتردية في الجامعات الأهلية. في أكتوبر 2024، أضرب طلاب جامعة الجلالة الأهلية بمحافظة السويس عن الدراسة بسبب تدهور الخدمات، وغياب سبل النقل الآمن، بعد حادث انقلاب أتوبيس أدى إلى وفاة 12 طالبًا وإصابة 29 آخرين.

الطلاب نددوا بارتفاع مصاريف السكن والنقل، وإغلاق مستشفى الجامعة، وعدم جاهزية الطرق المؤدية إليها. حادثة الجلالة عرّت ضعف البنية التحتية رغم الرسوم المرتفعة، وأكدت أن ما يدفعه الطالب لا يضمن له بالضرورة بيئة تعليمية آمنة.

 

خصومات للأجانب... وحرمان للعرب
تكشف رسوم الجامعات الأهلية للطلاب غير المصريين عن مفارقة لافتة؛ إذ تتراوح بين 3500 و8000 دولار سنويًا، بينما لا تتجاوز رسوم الجامعات الحكومية للوافدين 6000 دولار في الكليات العملية. وفي أغسطس 2023، ألغت الحكومة سياسة "المعاملة المتساوية" التي كان يتمتع بها طلاب بعض الجنسيات العربية، ما رفع كلفة التعليم عليهم فجأة.

 

تبريرات رسمية: استيعاب الأعداد وسوق العمل
في المقابل، يقدّم المسؤولون تبريرات "تنموية" للتوسع في الجامعات الأهلية. يقول حسن شحاتة، أستاذ المناهج بجامعة عين شمس، إن التوسع هدفه استيعاب أعداد الطلاب الكبيرة، وربط التعليم بسوق العمل من خلال برامج نوعية.

ويشير إلى أن التعليم الجامعي شهد طفرة كمية، إذ ارتفع عدد الجامعات من 50 إلى 128 خلال عقد واحد، منها 28 جامعة حكومية فقط ما زالت تقدم تعليماً شبه مجاني، لكن معظمها أدخل برامج خاصة بمصروفات مرتفعة.

 

قبول الطلاب الضعفاء مقابل المال
وفق تعديل قانوني أقرّه مجلس الوزراء، بات من الممكن قبول طلاب لم يبلغوا الحد الأدنى من المجموع في الجامعات الأهلية والخاصة، بشرط اجتيازهم سنة تأسيسية مدفوعة، قد تصل رسومها إلى 50 ألف جنيه. ويرى تربويون أن هذه الآلية تسمح بقبول طلاب ذوي تحصيل ضعيف في كليات مثل الطب والهندسة، ما يثير مخاوف بشأن جودة المخرجات التعليمية.

 

التعليم يتحول إلى سلعة
بدأت الجامعات الخاصة أول ظهورها في مصر عام 1996، وكان عددها أربع فقط، أما اليوم، فهناك:

32 جامعة خاصة

32 جامعة أهلية

10 جامعات تكنولوجية

9 أفرع لجامعات أجنبية

6 جامعات دولية

2 باتفاقيات خاصة

1 بقانون خاص

كلها تؤكد تحول التعليم العالي إلى سوق استثمارية ضخمة، تُدار بعقلية الربح والخسارة، على حساب العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص.