في وقت تشهد فيه مصر أزمة اقتصادية عميقة ومركبة، تتوالى التقارير التي تسلط الضوء على تخارج الثروات ورجال الأعمال من السوق المحلي إلى ملاذات آمنة في الخارج، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول مستقبل الاستثمار والبيئة الاقتصادية في البلاد.

وكشفت شركة "هينلي آند بارتنرز" العالمية المتخصصة في شؤون الهجرة والثروات، عن مغادرة نحو 100 مليونير مصري يمتلكون ثروات تفوق المليون دولار خلال العام الماضي فقط، بحصيلة مالية جماعية تقارب 800 مليون دولار، أي نحو 40 مليار جنيه.

هذه الأرقام، وإن كانت صادمة، لا تُعد مفاجئة لمتابعي الشأن الاقتصادي المصري، لا سيما في ظل ما يشهده البلد من تراجع في قيمة العملة، وتزايد في هيمنة المؤسسات السيادية على الاقتصاد، وبيئة تنظيمية وقانونية مشوبة بعدم الاستقرار.

 

خسارة متصاعدة للثروات المحلية
تقرير "هينلي" أكد أن مصر من بين أكثر 10 دول في العالم فقدت أثرياءها خلال العقد الأخير، حيث انخفض عدد المليونيرات بنسبة 22% منذ عام 2013، مقابل انخفاض بنسبة 21% في العاصمة القاهرة وحدها، ما يعكس تسارع وتيرة هروب الثروات الوطنية.

وترتبط هذه الظاهرة بشكل وثيق بتدهور سعر صرف الجنيه، الذي خسر نحو 85.7% من قيمته منذ 2014 وحتى منتصف 2025. هذه الخسارة العنيفة في العملة الوطنية، التي ترافقت مع سياسات تعويم متكررة وغير مستقرة، وضعت المستثمرين في مواجهة مخاطر نقدية يصعب تحملها، لا سيما في ظل تقلبات أسعار الصرف وموجات ارتفاع التضخم.

 

لماذا يرحل الأثرياء؟
بحسب "هينلي آند بارتنرز"، فإن انتقال أصحاب الملايين يُعد مؤشراً خطيراً على الأوضاع الاقتصادية في أي بلد. فرحيلهم غالباً ما يكون ناتجاً عن مشكلات كامنة مثل غياب الأمان الاقتصادي، والقيود التنظيمية، وضعف البنية المؤسسية، إضافة إلى الفروقات الضريبية الكبيرة بين مصر ودول أخرى تستقطب الثروات.

ورغم أن معدل الضريبة الرسمي في مصر لأصحاب الدخول المرتفعة يبلغ 22.5%، إلا أن رجال أعمال بارزين مثل سميح ساويرس يؤكدون أن تعدد الرسوم والجهات المحصِّلة لها يجعل النسبة الفعلية "تفوق نسبة الضرائب"، وهو ما يعده المستثمرون وضعاً غير منصف وطارد لرأس المال.

ويضاف إلى ذلك سيطرة الجيش ومؤسسات سيادية على الاقتصاد، وهو ما خلق بيئة تنافسية غير عادلة بين المستثمرين، وفاقم المخاوف من مصادرة الأصول أو تعرض أصحابها لملاحقات أو ضغوط سياسية.

 

الوجهات المفضلة: من الإمارات إلى المغرب
تصدرت الإمارات قائمة الدول الجاذبة للمليونيرات عالمياً، مع توقعات بأن تستقبل 9800 مليونير جديد هذا العام، تليها أمريكا، وسويسرا، وإيطاليا، فيما تشير الأرقام إلى أن السعودية والمغرب تحققان صعوداً ملحوظاً في هذا السياق، حيث من المتوقع أن تستقبل كل منهما 100 مليونير خلال 2025.

وتوضح بيانات رسمية أن المصريين احتلوا المرتبة الثالثة من حيث تأسيس الشركات في دبي خلال 2024، فيما ارتفعت الاستثمارات المصرية في السعودية بنسبة 150%، ما يعكس حجم النزوح الاستثماري من الداخل إلى الخارج.

 

8 أسباب رئيسية للهروب
عدد الخبير الاقتصادي مصطفى خضري 8 أسباب رئيسية لهجرة الأثرياء من مصر، أبرزها:

  1. تغوّل الدولة وأذرعها على الاقتصاد.
  2. تضييق على القطاع الخاص وتهميشه.
  3. مخاوف المصادرة تحت غطاء قضائي أو أمني.
  4. تعقيد البيروقراطية والرسوم الجمركية والإدارية.
  5. عدم استقرار سعر الصرف والثقة في الجنيه.
  6. هشاشة الاستثمارات قصيرة الأجل (الأموال الساخنة).
  7. تأخر سداد مستحقات الشركات المتعاملة مع الحكومة.
  8. ضغوط ضريبية وتعديلات غير متوقعة تُضعف البيئة الاستثمارية.

 

تناقض: لماذا يتدفق الاستثمار الأجنبي؟
رغم هروب رأس المال المحلي، تواصل مصر جذب استثمارات أجنبية، خصوصاً من الصناديق الخليجية، وهو ما يعكس مفارقة صارخة.

الخبير المصري أوضح أن تدفق الاستثمار الأجنبي يرتبط بـ:

  • الإصلاحات النقدية الأخيرة، وعلى رأسها تحرير سعر الصرف.
  • عوائد مرتفعة على أدوات الدين الحكومية.
  • صفقات الخصخصة الموجهة للأجانب فقط.
  • غياب تكافؤ الفرص بين المستثمر المحلي والأجنبي.

وهو ما يثير تساؤلات حول مدى عدالة السياسات الاقتصادية الحالية، وهل تقدم الدولة حوافز كافية للاستثمار الأجنبي دون النظر إلى تنمية البيئة الداخلية الجاذبة للمستثمرين المحليين؟