في خطوة اعتبرها اقتصاديون استمرارًا لنهج تحميل المواطن أعباء الأزمة الاقتصادية، أعلن وزير المالية بحكومة الانقلاب العسكري أحمد كوجك، في يوليو 2025، عن إصدار سندات تجزئة موجهة للأفراد، كأداة لتمويل الدولة وتوفير "وسائل ادخارية جديدة"، الفكرة التي رآها الغالبية أنها محاولة يائسة لتمويل العجز المتفاقم من جيوب المواطنين الذين يعانون أصلًا من التضخم والضرائب الباهظة.

 

سندات التجزئة..

بحسب ما أعلنه الوزير أحمد كوجك في مؤتمر صحفي يوم 22 يوليو 2025، فإن وزارة المالية ستطرح سندات تجزئة تبدأ من فئات صغيرة (1000 جنيه مصري)، ما يسمح للأفراد بشرائها بسهولة، مع وعود بعائد تنافسي وتسهيلات رقمية عبر تطبيق إلكتروني جديد.

وصرّح كوجك بأن هذه الخطوة تهدف إلى "إشراك المواطنين في دعم الاقتصاد الوطني، وتوسيع قاعدة المتعاملين مع أدوات الدين"،  إلا أن العديد من الاقتصاديين يرون في ذلك إقرارًا صريحًا بعجز الدولة عن جذب استثمارات أجنبية أو تمويل العجز بوسائل مستدامة.

 

اقتصاد متهالك ومواطن مسحوق

الخبير الاقتصادي د. محمد فؤاد، رئيس مركز العدل لدراسات السياسة العامة، علّق على القرار قائلًا: "من الناحية الفنية، إصدار السندات للأفراد فكرة ممتازة لتوسيع قاعدة الدين المحلي، لكنها في السياق المصري تعني شيئًا واحدًا: السلطة لا تجد من يقرضها سوى الشعب المطحون"، جاء ذلك في لقاء مصور عبر قناة "مكملين"، يوم 25 يوليو 2025.

وأضاف فؤاد: "الدولة أصبحت تقترض من كل جهة، من صندوق النقد الدولي، من البنوك المحلية، من الدول الخليجية، والآن من جيوب المواطنين، بعد أن أفقدتهم القوة الشرائية والاستقرار المالي".

وذكّر بأن الدين العام لمصر بلغ في يونيو 2024 ما يزيد عن 10.2 تريليون جنيه، بحسب بيانات وزارة المالية نفسها.

 

مَن المستفيد الحقيقي؟

رغم ما يروج له الإعلام الرسمي من فوائد ادخارية "مضمونة"، يؤكد اقتصاديون أن هذه السندات تمثل عبئًا جديدًا على المواطن، فمن جهة، سيتجه كثيرون لشراء السندات هربًا من التضخم، ما يقلل إنفاقهم الاستهلاكي؛ ومن جهة أخرى، قد تُستخدم هذه الأموال في سد فجوات لا علاقة لها بتنمية المواطن، مثل خدمة الدين الخارجي أو تمويل مشروعات غير إنتاجية مثل العاصمة الإدارية.

وتساءل الكاتب الاقتصادي سامي سعد في مقال نشره موقع "المنصة" يوم 24 يوليو 2025: "كيف نثق في أدوات دين تطرحها حكومة فشلت في إدارة أبسط ملفات الصحة والتعليم؟ وماذا عن ملايين المواطنين الذين لا يملكون أصلًا ما يدخرونه؟"

يأتي هذا القرار في سياق عام من الاعتماد الكثيف على الاقتراض، إذ وافق صندوق النقد الدولي في مارس 2024 على برنامج جديد بقيمة 8 مليارات دولار، بشرط تنفيذ إصلاحات مالية صارمة، كان أبرزها تقليص دعم الطاقة وزيادة الضرائب، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء بنسب تتجاوز 40%.

ومع استمرار تراجع الاستثمار الأجنبي، خاصة بعد تباطؤ تنفيذ مشروعات مثل رأس الحكمة، تتجه الحكومة إلى الداخل: المواطن هو الممول الجديد، لكن هذه "السبوبة" كما يسميها الاقتصاديون، لا تبدو عادلة، خاصة أن الطبقة الوسطى أصبحت بالكاد تستطيع توفير احتياجاتها الأساسية، بحسب تقارير البنك الدولي في 2024.

 

أين ذهبت أموال المشروعات الكبرى؟

تُطرح السندات في وقتٍ يزداد فيه الجدل حول فاعلية المشروعات القومية التي يتباهى بها النظام، من العاصمة الإدارية إلى القطار الكهربائي فائق السرعة، هذه المشروعات استنزفت، وفق تقارير رقابية غير منشورة رسميًا، ما يزيد عن 1.6 تريليون جنيه منذ 2016.

ويتساءل الناشط السياسي خالد داوود: "إذا كانت الحكومة تريد من المواطن أن يدخر عبر سنداتها، فلماذا لا تدخر هي أولًا عبر تقليص الإنفاق على القصور الرئاسية والاحتفالات والمهرجانات؟"

 

نظام السيسي يراكم الديون..

بلغت الديون الخارجية لمصر نحو 172.9 مليار دولار بنهاية مارس 2025، حسب بيانات البنك المركزي.

ويتوقع صندوق النقد أن تصل إلى أكثر من 202 مليار دولار في 2030، إذا استمرت السياسات على هذا المنوال.

ومع تضاؤل الإيرادات الدولارية، وتقلص تحويلات العاملين بالخارج بنسبة 21% في النصف الأول من 2025، أصبحت الحكومة في مأزق تمويلي حقيقي.

يرى اقتصاديون أن الحل لا يكمن في الاقتراض المستمر، بل في إعادة هيكلة الاقتصاد عبر وقف المشروعات غير الضرورية، وتشجيع الإنتاج المحلي، وتخفيف القبضة الأمنية على القطاع الخاص، وفرض ضرائب تصاعدية على الشركات الكبرى والجيش.

ويؤكد الباحث الاقتصادي عمرو عدلي في ندوة عبر "كارنيغي" أن: "الاستثمار الحقيقي لن يعود إلا بوجود مناخ سياسي شفاف، وقضاء مستقل، ومؤسسات تخدم المواطن لا السلطة".

سياسة الإفلاس المقنّع

في النهاية، يظل إصدار سندات التجزئة للأفراد في مصر سياسة إفلاس مقنّع بنكهة وطنية، تحمل المواطن وزر فشل سياسات لم يُستشر فيها أصلًا.

ومع غياب أي رقابة شعبية أو برلمانية حقيقية على أدوات الاقتراض، يبقى الخطر الأكبر هو أن المواطن يدفع الثمن اليوم.. وغدًا أيضًا.