وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

في أحاديث طويلة وعريضة خلال الساعات الماضية، تكلّم الجنرال عبد الفتّاح السيسي نيابة عن التاريخ، فقال إنه سيحاسب كلّ من تواطأ أو شارك أو صمت عن الجريمة الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني، وهذا قولٌ لا خلاف فيه، إنما الإشكالية هنا في مفاهيم التواطؤ والمشاركة والصمت، ما يطرح أسئلة عدة، مثلًا: هل التربّح ممّا يجود به العدو من خيراتٍ مغتصبةٍ من الشقيق من طريق حرب إبادة مجنونة يمكن أن يندرج تحت تعريف التواطؤ والمشاركة أم لا؟ هل الثرثرة الفارغة طوال الوقت إن الشقيق الأكبر لا حول له ولا قوة للتدخل لإنقاذ الشقيق الأصغر من بين براثن عدوان إجرامي همجي، بحجّة أن هذا العدو يسيطر على كل المداخل ويمنع المساعدات... هل تلك الثرثرة نوع من الصمت الزاعق على الجريمة أم لا؟

وعلى ذكر التاريخ المسكين (الذي سوف يتوقّف طويلًا)، ماذا يمكن أن يقول هذا التاريخ عن وصول حرب التجويع المفروضة على الشعب الفلسطيني مرحلة ذوبان عظام الأطفال وجلودهم، في اللحظة  التي يعلن فيها رئيس الحكومة المصرية أن "أحفادنا سيتحدّثون عن الفترة الذهبية التي نمرّ بها الآن"، ثمّ يبشّر الجماهير بأن "لدينا منظومة مستقرّة لإمداد مصر بالغاز لخمس سنوات قادمة"، وبأن الاحتياطي النقدي بلغ أرقامًا قياسية، وأن الدولار يتراجع مقهورًا في سوق الصرف، ذلك كلّه قبل أن يأتي الإعلان عن الصفقة غير المسبوقة في التاريخ بمنح الاحتلال الصهيوني الحكومة المصرية شحنات غاز طبيعي بنحو 35 مليار دولار. كيف سيلخّص التاريخ هذا المشهد؟ هل هناك صيغة أخرى سوى "جاعت غزّة فامتلأت بطن مصر وخزائنها"؟ 

كيف حقًا سيفسّر التاريخ/ المستقبل هذه المفارقة، ويحلّ اللغز الاقتصادي الذي وقفت أمامه عالمة اقتصاد بارزة، عالية المهدي، الأستاذة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة وعميدها الأسبق، تعصف بها الحيرة والدهشة، فتكتب: "مفيش أيّ سبب موضوعي مقبول يخلّي سعر صرف الجنيه قصاد الدولار يرتفع، لا صادراتنا زادت بشدّة ولا عجز الميزان التجاري انخفض، ولا معدّل التضخم في مصر بقي أقلّ من معدل التضخم عند الشركاء التجاريين، ولا التزاماتنا تجاه الخارج قلت، وما زال علينا أعباء سداد مديونية ضخمة سنويًا. صحيح أن رؤوس الأموال الساخنة زادت ووصلت 41 مليار دولار تقريبًا، بس دي أرقام تقلق مش تفرّح حدّ، لأنها ممكن تخرج في أي لحظة وتسبّب أزمات كبيرة. يبقى مطلوب نفهم ليه سعر الدولار قصاد الجنيه انخفض؟".

في يناير 2020، كان اللغز الاقتصادي نفسه يصيب الجميع بالحيرة، وقد سجلّتُ وقتها: "ما معنى أن يعلن نظام عبد الفتّاح السيسي تراجع سعر الدولار أمام الجنيه المصري في اللحظة التي يبدأ فيها شراء الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني مقابل أكثر من 19 مليار دولار على 15عامًا، بواقع مليار ونص المليار دولار سنويًا؟... ما أفهمه أنك حين تستدين وتقترض من أجل تمويل شراء سلعة بالعملة الأجنبية، فإن تأثيرًا سلبيًا يقع على الاحتياطي النقدي لديك، وهو ما ينعكس تراجعًا في قيمة العملة المحلية".

لماذا يرتبط تراجع سعر الدولار وارتفاع الاحتياطي النقدي مع الإعلان عن صفقات غاز ضخمة من الكيان الصهيوني للحكومة المصرية؟... هذا سؤالٌ أتركه لرئيس قسم الاقتصاد في "العربي الجديد"، زميلنا مصطفى عبد السلام، للإجابة عنه، غير أن ما أفهمه أنه حين تكون هناك حرب مسعورة على دولة شقيقة هي الأقرب جغرافيًا وتاريخيًا، فإن تبادل المصالح التجارية مع المعتدي يجعل الكلام عن دور ينسجم مع القيم القومية والإنسانية نوعًا من الكوميديا، وربّما يعتبره بعض الناس نوعًا من المزاح الثقيل.

مدهشٌ أن تكون القضية في قاموس السيسي مواجهة بين "الدولة الإسرائيلية" و"العناصر في غزّة"، وفي منظوره القيمي والقومي كذلك، يمكنك أن تقسم أيمانًا مغلّظة بأنك صاحب الدور الأكبر في الدفاع عن الشعب الفلسطيني ضدّ حرب الإبادة الصهيونية، وفي الوقت نفسه، تحصل على امتيازات مالية وإسرائيلية غير مسبوقة، بقيمة 35 مليار دولار شحنات غاز طبيعي ممّا يسرقه الاحتلال من فلسطين. مرّة أخرى، الأسوأ من التبعات الاقتصادية والسياسية لفضيحة التربّح من صفقات الغاز الآتي من العدو الإسرائيلي، هو إسالة المفاهيم الوطنية والأخلاقية، الأمر الذي يتحوّل معها تعريف الوطن من كيان مقدّس، زمانيًا ومكانيًا، إلى "سوبر ماركت" يبحث عن الربح بأيّ وسيلة وتحت أيّ شرط، بدلًا من البحث عن المجد والعزّة والكرامة الوطنية.