على الرغم من الدعاية الحكومية الواسعة التي تصور منظومة التأمين الصحي الشامل في بورسعيد كنموذج للنجاح المبهر بمعدلات رضا تتجاوز 92%، ترسم شكاوى المواطنين واستغاثاتهم اليومية صورة مغايرة تماماً. فبينما تُخصم رسوم التأمين بانتظام من رواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين، يجد آلاف المواطنين أنفسهم عالقين أمام أبواب المنظومة، عاجزين عن التسجيل أو الحصول على خدمة طبية لائقة، فيما تظل الخطوط الساخنة التي خصصتها الدولة للتواصل "خارج الخدمة مؤقتاً" في كثير من الأحيان.
هذا الواقع المرير الذي يعيشه أهالي بورسعيد يحول المشروع الذي أُطلق كحلم لتوفير رعاية صحية كريمة إلى كابوس، ويثير تساؤلات جدية حول جدوى المنظومة وفعاليتها، خاصة مع تجاهل الحكومة للأصوات الناقدة وتصويرها للشكاوى على أنها "شائعات" تهدف لعرقلة النجاح.
"الخطوط الساخنة".. خارج الخدمة في وجه الاستغاثات
في الوقت الذي تروج فيه الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل وهيئة الرعاية الصحية عن وجود قنوات اتصال متعددة لتلقي الشكاوى والاستفسارات، وعلى رأسها الخط الساخن (15344)، يواجه المواطنون في بورسعيد حقيقة صادمة تتمثل في صعوبة الوصول إلى هذه الخدمة. العديد من التقارير والشهادات تؤكد أن الخط الساخن يكون في كثير من الأحيان مرفوعًا من الخدمة، مما يترك المرضى في حيرة من أمرهم، غير قادرين على حجز موعد أو تقديم شكوى عاجلة.
هذه المشكلة لا تعكس مجرد خلل تقني، بل تمثل إحدى حلقات الإهمال الحكومي، حيث يفشل النظام في توفير أبسط أدوات التواصل مع المنتفعين، الذين يُجبرون على دفع الاشتراكات دون أن يجدوا من يستمع لاستفساراتهم أو استغاثاتهم، مما يزيد من شعورهم بالغضب والتهميش.
سقوط المواطنين من المنظومة: بين صعوبة التسجيل وتأخر الخدمة
تتفاقم الأزمة مع شكاوى المواطنين المستمرة من عدم قدرتهم على التسجيل في المنظومة بالرغم من خصم الرسوم من دخولهم الشهرية. هذه الشكاوى وصلت إلى أروقة البرلمان، حيث تقدم نواب بطلبات إحاطة عاجلة، واصفين المنظومة بأنها مجرد "حبر على ورق" وأنها أدت إلى تأخر الخدمات الصحية في المحافظة بدلاً من تطويرها.
تضمنت الشكاوى التي قدمها النواب طول الفترات الزمنية لانتظار الحالات المرضية للحصول على الخدمة، وهو ما يؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية. وبينما لم يتم التحقق من صحة الأنباء التي تحدثت عن سقوط نسبة تصل إلى 15% من المواطنين من المنظومة، فإن حجم الشكاوى البرلمانية والشعبية يؤكد وجود فجوة كبيرة بين أعداد المشتركين الذين تُحصَّل منهم الأموال وأعداد من يحصلون على خدمة فعلية.
شهادات من قلب المعاناة: "الداخل مفقود والخارج مولود"
تتجاوز المشكلة مجرد الصعوبات الإدارية والتقنية لتصل إلى قلب الخدمة الصحية نفسها. فيديو تحقيقي بثته قناة "الشرق" كشف عن حجم الكارثة داخل مستشفيات بورسعيد التابعة للمنظومة. فالمستشفيات التي تم ضمها للنظام، مثل مستشفى المصحى البحري ومستشفى بورفؤاد العام، تعاني من تهالك بنيتها التحتية ونقص حاد في الأطباء والمعدات وحتى أسرة العناية المركزة.
ووثق التقرير حالات إهمال طبي جسيم أدت إلى وفيات، منها وفاة سيدة أثناء الولادة بسبب تلوث الأدوات الطبية، وشاب آخر تعرض لثقب في الرئة خلال تلقيه العلاج. المشهد السريالي يكتمل بانتشار القطط والكلاب داخل أروقة المستشفيات، مما يعكس حالة من الفوضى والإهمال لا تليق بمؤسسة صحية.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تصريح الدكتور مصطفى شعبان، رئيس هيئة الرعاية الصحية ببورسعيد سابقاً، الذي أعلن عدم قدرته على تحمل "وزر موت مريض في الطوارئ" بسبب نقص الإمكانيات والأطباء والتمريض والمستلزمات، في شهادة رسمية من داخل المنظومة تفضح هشاشتها.
"رضا المنتفعين".. بين أرقام الحكومة ومجموعات الشكاوى
في مواجهة هذا السيل من الشكاوى، تصر الحكومة على الترويج لنسب رضا مرتفعة بين المنتفعين تصل إلى 92% في مراكز الرعاية الأولية و84% بالمستشفيات خلال النصف الأول من عام 2025. لكن هذه الأرقام تبدو بعيدة كل البعد عن الواقع الذي يعكسه المواطنون.
إن تجاهل الحكومة لهذه الأصوات الناقدة والاعتماد على الدعاية فقط لا يحل الأزمة، بل يعمقها ويزيد من انعدام الثقة بين المواطن والدولة، ويؤكد أن منظومة التأمين الصحي في بورسعيد، رغم كل المليارات التي أنفقت، لا تزال بعيدة عن تحقيق حلم المصريين في رعاية صحية شاملة وعادلة.

