لم يكن حادث منطقة الشاطبي بالإسكندرية، الذي أودى بحياة وإصابة عدد من المواطنين مؤخرًا، سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الحوادث المأساوية التي تضرب الشوارع المصرية، نتيجة الإهمال الحكومي المزمن في التخطيط المروري، وغياب أبسط مقومات السلامة العامة.
الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت مشهدًا مألوفًا: ضحايا ممددون على الأرض، سيارات متوقفة في حالة فوضى، وغياب شبه تام لعناصر المرور أو سيارات الإسعاف في الدقائق الأولى، بينما يتجمع المواطنون في حالة ذهول وصراخ.
https://www.blogger.com/blog/post/edit/4476304132469988251/1836560874530203075?hl=ar
المشهد الميداني: طريق سريع وسط البشر
من يعرف منطقة الشاطبي جيدًا يدرك أنها واحدة من أكثر المناطق ازدحامًا في الإسكندرية، حيث تتقاطع حركة المركبات القادمة من الكورنيش مع حركة المشاة المتجهين إلى الشاطئ أو المناطق التجارية والتعليمية القريبة.
لكن، ورغم هذه الكثافة البشرية، لا توجد جسور أو أنفاق مخصصة لعبور المشاة في معظم النقاط الخطرة.
المشهد في يوم الحادث كان صادمًا: شخص أو أكثر يحاولون عبور الطريق، سرعة السيارات عالية، لا وجود لمطبات تهدئة أو إشارات ضوئية فعّالة، ولا رجل مرور يضبط الحركة. النتيجة الحتمية في مثل هذا الإهمال هي اصطدام مميت.
غياب التخطيط المروري
الخطير أن الحادث ليس وليد الصدفة أو سوء حظ، بل نتيجة مباشرة لفشل التخطيط المروري في المدينة.
فمنذ سنوات، يعتمد الكورنيش في الإسكندرية على نظام مروري قديم، رغم تضاعف أعداد السيارات والمشاة.
لا توجد نقاط عبور آمنة للمشاة على مسافات مناسبة.
إشارات المرور، إن وجدت، إما معطلة أو لا يلتزم بها السائقون لغياب الرقابة.
التصميم العمراني للطريق لا يأخذ في الاعتبار أن المنطقة ليست طريقًا سريعًا منعزلًا، بل شريانًا وسط أحياء سكنية وتجارية وسياحية.
أين رجال المرور؟
أحد أبرز مظاهر الإهمال الحكومي في هذه الواقعة هو الغياب التام لرجال المرور في موقع الحادث قبل وقوعه. منطقة الشاطبي معروفة بازدحامها وكثرة العابرين، ما يجعل وجود دورية مرور ثابتة ضرورة، لا رفاهية.
لكن الواقع يكشف أن أفراد المرور غالبًا ما يتمركزون في نقاط لتحرير المخالفات للسائقين أو تسيير مواكب رسمية، بينما تترك نقاط الخطر الحقيقي بلا رقابة.
الإسعاف… استجابة بطيئة تكلف الأرواح
شهود العيان أكدوا أن سيارات الإسعاف وصلت متأخرة نسبيًا، ما ساهم في تفاقم الإصابات. في حوادث الدهس، الدقائق الأولى قد تحدد مصير المصاب بين الحياة والموت، لكن غياب خطة استجابة طارئة فعّالة في الإسكندرية جعل الضحايا ينتظرون وسط نزيف وآلام، قبل أن يصل الدعم الطبي.
مسؤولية الدولة… واجب مهمل
الحكومة، عبر وزارة النقل والمحليات، تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الحوادث، ليس فقط لأنها المسؤولة عن البنية التحتية، بل لأنها تعلم مسبقًا أن نقاط العبور على الكورنيش خطرة، ورغم ذلك لم تتخذ الإجراءات اللازمة.
تجارب المدن الساحلية حول العالم تثبت أن حماية المشاة في مناطق الكثافة السياحية أولوية قصوى، من خلال:
- جسور وأنفاق لعبور آمن.
- إشارات ضوئية مخصصة للمشاة، مرتبطة بحساسات حركة.
- كاميرات مراقبة لضبط المخالفين.
- وجود دائم لرجال المرور في النقاط الحيوية.
في المقابل، تكتفي السلطات في الإسكندرية بإصلاح شكلي بعد كل حادث، أو إطلاق وعود فضفاضة، دون تنفيذ حلول جذرية.
تكرار الحوادث… دروس لم تُستفد منها
حادث الشاطبي ليس الأول من نوعه. قبل أعوام، شهدت مناطق مثل كامب شيزار، ومحطة الرمل، وسيدي جابر، حوادث مشابهة أودت بحياة مواطنين، أغلبهم من الأطفال وكبار السن.
في كل مرة، يتكرر المشهد ذاته: غضب شعبي على وسائل التواصل، بيانات رسمية مبهمة، ووعود بزيادة دوريات المرور، ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه.
ثقافة «لوم الضحية»
المؤسف أن بعض البيانات الرسمية ووسائل الإعلام الموالية تحاول تحميل الضحايا أنفسهم جزءًا من المسؤولية، عبر ترديد عبارات مثل «كانوا يعبرون من مكان غير مخصص» أو «لم ينتبهوا للطريق».
هذه الرواية تتجاهل حقيقة أن الدولة هي المسؤولة عن توفير أماكن لعبور المشاة، وعن ضمان سلامة الطرق في المناطق السكنية والسياحية.
إهمال ممنهج
ما حدث في الشاطبي يمكن وصفه بـ«الإهمال الممنهج»، لأن أسبابه معروفة ومكررة، والحلول التقنية والعمرانية موجودة ومتاحة، لكن الإرادة السياسية غائبة. الحكومة تخصص مليارات لمشروعات طرق سريعة وجسور خرسانية ضخمة، بينما تتجاهل أبسط احتياجات السلامة داخل المدن، كأن حياة المشاة أقل قيمة.
أثر الحادث على المجتمع
مثل هذه الحوادث تترك أثرًا نفسيًا عميقًا على المجتمع المحلي:
إحساس بعدم الأمان حتى في الأنشطة اليومية البسيطة كعبور الشارع.
فقدان الثقة في قدرة الدولة على حماية المواطنين.
غضب شعبي يتجدد مع كل حادث مشابه، ويتحول إلى شعور بالعجز حين لا يحدث تغيير حقيقي.
مقترحات وحلول عاجلة
رغم أن الحكومة تتحمل المسؤولية الأكبر، إلا أن الحلول ليست معقدة:
- إنشاء جسور وأنفاق لعبور المشاة في كل 500 متر على الكورنيش.
- تركيب إشارات ضوئية حديثة للمشاة، وإلزام السائقين بالوقوف.
- تكثيف وجود رجال المرور في النقاط الساخنة، خاصة في مواسم الصيف.
- إعادة تصميم بعض المقاطع لتقليل السرعة القصوى المسموح بها.
- إطلاق حملات توعية للسائقين والمشاة حول قواعد السلامة.
لكن المشكلة تكمن في أن مثل هذه الحلول لا تجد طريقها للتنفيذ إلا بعد ضغط إعلامي وشعبي واسع، وغالبًا ما تكون استجابة وقتية لامتصاص الغضب.
وأخيرا فإن حادث الشاطبي ليس قدرًا محتومً[ا، بل نتيجة مباشرة لإهمال حكومي مستمر، وغياب رؤية شاملة للسلامة المرورية. أرواح المواطنين تُزهق على الأسفلت لأن الدولة اختارت أن تستثمر في مشروعات استعراضية كالجسور العملاقة والطرق السريعة، بدلًا من حماية المشاة في قلب المدن.
وما لم تتحول سلامة المواطن إلى أولوية حقيقية في التخطيط والتنفيذ، فإن الشاطبي سيبقى مجرد اسم جديد يُضاف إلى قائمة طويلة من النقاط السوداء في خريطة الإسكندرية، وسنشهد مزيدًا من الحوادث التي يمكن تفاديها لو كان هناك احترام حقيقي لحق الإنسان في الحياة.