أثار تصريح رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات، المستشار حازم بدوي، حول تسجيل انتخابات مجلس الشيوخ 2025 «أعلى نسبة مشاركة في تاريخ المجلس» موجة من الجدل والسخرية بين المراقبين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي.
فالأرقام التي أعلنها -11.65 مليون ناخب بنسبة 17.1%- لا تعكس بأي شكل ما شهده الشارع المصري من عزوف واسع النطاق، بل على العكس، تؤكد حجم الفجوة بين الرواية الرسمية والواقع الميداني.
المشهد في يوم التصويت… لجان خاوية
على مدار يومي التصويت، انتشرت الصور ومقاطع الفيديو من مختلف المحافظات، تُظهر لجانًا انتخابية شبه خاوية، باستثناء بعض التجمعات المحدودة أمام لجان بعينها، معظمها مرتبطة بممارسات الحشد الإجباري لموظفي الدولة أو المستفيدين من المساعدات.
غياب الطوابير، الذي كان في السابق أحد ملامح الانتخابات النشطة، كان هذه المرة هو القاعدة، ما جعل كثيرين يشككون في صدقية أي نسبة مشاركة يتم إعلانها.
تصريحات بدوي… قراءة نقدية
حين يصف رئيس الهيئة نسبة 17.1% بأنها «الأعلى في تاريخ المجلس»، فإن ذلك يتطلب قراءة دقيقة:
- أولاً: مجلس الشيوخ بصيغته الحالية لم يشهد سوى دورة انتخابية واحدة في 2020، وكانت نسبة المشاركة الرسمية المعلنة وقتها حوالي 14.23% (8.96 مليون ناخب من أصل نحو 62 مليون مقيد).
- ثانيًا: حتى لو افترضنا صحة الرقم المعلن في 2025، فإن الزيادة طفيفة (حوالي 2.87%)، وهي لا تكفي لتبرير وصفها بـ«الأعلى في التاريخ» وكأنها إنجاز سياسي.
- ثالثًا: النسبة نفسها — 17.1% — هي في الحقيقة انعكاس لمقاطعة 82.9% من الناخبين، وهو ما يعني أن الأغلبية الساحقة فضلت البقاء في منازلها.
مقارنة بالمجالس الأخرى
إذا أخذنا الانتخابات البرلمانية لمجلس النواب كمقياس، نجد أن نسب المشاركة كانت تاريخيًا أعلى بكثير:
- انتخابات مجلس الشعب 2011/2012 بعد ثورة يناير شهدت مشاركة تجاوزت 54%.
- انتخابات 2015، رغم الإحباط العام وقتها، بلغت نسبة المشاركة الرسمية حوالي 28.3%.
- انتخابات 2020 لمجلس النواب، رغم الانتقادات، سجلت 28.9%.
مقارنة بهذه الأرقام، فإن نسبة 17.1% تبدو ضئيلة، ولا يمكن ترويجها كنجاح أو كـ«أعلى نسبة» إلا إذا حُصرت المقارنة في انتخابات مجلس الشيوخ فقط، وهو مجلس مستحدث في 2020 بعد تعطيله منذ 2013.**
عزوف شعبي واضح
المقاطعة الشعبية للانتخابات لم تأتِ من فراغ.
هناك عدة أسباب دفعت المواطنين للعزوف:
- غياب المنافسة الحقيقية: أغلب المقاعد محسومة سلفًا عبر «القائمة الوطنية من أجل مصر» المدعومة من السلطة، والتي تسيطر على دوائر القوائم دون منافس فعلي.
- ضعف صلاحيات مجلس الشيوخ: كثير من المواطنين يرون أن المجلس بلا تأثير حقيقي على التشريع أو الرقابة، وأنه مجرد غرفة استشارية تُكلف الدولة أعباء مالية دون عائد ملموس.
- انعدام الثقة في نزاهة العملية الانتخابية: تراكم خبرات سابقة عن تقييد الحملات المستقلة، وتضييق على المرشحين المعارضين، واستبعاد منافسين قبل التصويت.
- الأوضاع الاقتصادية الصعبة: مع الغلاء والبطالة وتدهور الخدمات، يرى كثيرون أن الانتخابات لا تعنيهم ولا تقدم حلولًا لمشكلاتهم اليومية.
من حضر… أبطل صوته
ظاهرة أخرى لافتة في انتخابات الشيوخ 2025 هي ارتفاع نسبة الأصوات الباطلة.
رغم أن الهيئة لم تصدر أرقامًا دقيقة عن حجم الأصوات الباطلة، إلا أن مؤشرات من مراقبين غير رسميين تشير إلى أن نسبة منها كانت متعمدة — أي أن ناخبين حضروا فقط ليبطلوا أصواتهم كتعبير احتجاجي.
في انتخابات 2020 للشيوخ، بلغت نسبة الأصوات الباطلة حوالي 14.4%، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمعايير الدولية. وإذا كانت النسبة في 2025 مماثلة أو أعلى، فهذا يعني أن جزءًا مهمًا من الحاضرين لم يشاركوا دعمًا للنظام، بل لإرسال رسالة رفض.
القوائم المغلقة… انتخابات بلا مفاجآت
فوز «القائمة الوطنية من أجل مصر» في دوائر القوائم كان أمرًا متوقعًا، إذ لم يسمح بوجود قوائم منافسة ذات وزن، ما جعل الاقتراع على هذه المقاعد أقرب إلى الاستفتاء منه إلى الانتخابات التعددية.
هذا النمط يكرس سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، ويفرغ العملية الانتخابية من مضمونها التنافسي، الأمر الذي يدفع قطاعات أوسع من الجمهور لاعتبار المشاركة مضيعة للوقت.
البروباغندا الرسمية… أرقام لتجميل المشهد
إعلان رقم «11.65 مليون ناخب» قد يُستخدم في الخطاب الرسمي للتأكيد على وجود قاعدة شعبية داعمة، لكن الحقيقة أن هذا الرقم، عند وضعه في سياق الهيئة الناخبة البالغة أكثر من 68 مليون مواطن، يكشف أن أكثر من أربعة أخماس الشعب لم يشارك.
الأخطر أن الأرقام تُقدَّم في الإعلام الموالي دون أي تدقيق أو مقارنة، مع تجاهل الصور والفيديوهات التي تُظهر الواقع الخالي للجان، وكأن المشهدين ينتميان لعالمين مختلفين.
الإعلام الموالي… نسخة واحدة من الحقيقة
القنوات والصحف المقربة من السلطة روّجت لصور محدودة تظهر حضورًا مكثفًا في بعض اللجان، غالبًا في الساعات الأخيرة من اليوم الانتخابي، مع تجاهل غالبية اللجان الخاوية.
هذا الأسلوب في الانتقاء الإعلامي يعكس نمطًا متكررًا في كل الانتخابات منذ 2014، حيث يُبنى الخطاب الرسمي على تضخيم المشاركة، وتجاهل أو نفي مظاهر العزوف.
المعارضة والمجتمع المدني… غياب قسري
جزء من ضعف الإقبال يعود أيضًا إلى غياب المعارضة الحقيقية. الأحزاب والشخصيات المعارضة إما مُستبعدة من الترشح، أو مقيدة بحملات دعائية ضعيفة، أو مقاطِعة للانتخابات احتجاجًا على غياب شروط النزاهة.
المجتمع المدني المستقل، الذي كان يلعب دورًا رقابيًا، تم تحجيمه عبر قوانين الجمعيات وإجراءات التضييق، ما حرم الانتخابات من آليات رقابة مستقلة وشفافة.
قراءة في الدلالات السياسية
نسبة المشاركة المعلنة، حتى مع كل التجميل الإعلامي، لا يمكن قراءتها إلا كمؤشر على أزمة شرعية.
حين يقاطع أكثر من 80% من الناخبين حدثًا سياسيًا يفترض أن يكون استحقاقًا وطنيًا، فهذا يعكس فقدان الثقة في المؤسسات المنتخبة، ويكشف الفجوة بين النظام والمجتمع.
ورغم أن السلطة قد لا تكترث بالأرقام الفعلية طالما أن النتائج مضمونة، إلا أن تراكم هذه الظواهر بمرور الوقت قد يقوّض أي ادعاء بوجود تمثيل شعبي حقيقي.
في النهاية فإن تصريحات المستشار حازم بدوي عن تسجيل «أعلى نسبة مشاركة في تاريخ مجلس الشيوخ» تحاول رسم صورة انتصار سياسي، لكن قراءة الأرقام في سياقها الحقيقي تكشف العكس: عزوف جماهيري واسع، نسب حضور ضعيفة مقارنة بالمجالس الأخرى، ارتفاع في إبطال الأصوات، وغياب أي منافسة حقيقية.
كما يمكن القول إن انتخابات مجلس الشيوخ 2025 لم تكن استفتاءً على برامج سياسية أو صراعًا بين رؤى مختلفة، بل كانت تمرينًا شكليًا لتجديد صورة مؤسسات شكلية، بينما الشارع يزداد ابتعادًا عن صناديق الاقتراع وسخطا على النظام.