في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 105 ملايين نسمة، يشكل الشباب — الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا — الشريحة الأكبر والأكثر حيوية. لكن في مصر، لم تعد هذه الفئة تمثل "الأمل" كما في الأدبيات السياسية، بل أصبحت تحمل عبء أزمات متراكمة: بطالة مرتفعة، وانسداد الأفق، وغلاء معيشة خانق، وقمع أمني واسع.
تحت وطأة هذه الظروف، بات كثير من الشباب أمام خيارات قاتمة: إما الهجرة غير الشرعية بحثًا عن فرصة للحياة، أو البقاء في الداخل ومواجهة البطالة والفقر، أو الوقوع ضحية آلة القمع داخل السجون.
البطالة… بداية السلسلة المأساوية
رغم أن الحكومة تعلن بين الحين والآخر عن مشروعات قومية ضخمة وتوسعات عمرانية هائلة، إلا أن نسب البطالة الفعلية بين الشباب تبقى مرتفعة، خصوصًا بين خريجي الجامعات والمعاهد.
التقديرات الرسمية تشير إلى بطالة تتراوح بين 7% و9%، لكن الواقع الذي تعكسه الشوارع ومكاتب التوظيف ومواقع التواصل يقول إن النسبة بين الشباب قد تتجاوز 25% في بعض المحافظات.
أسباب البطالة:
- غياب الصناعة الإنتاجية الحقيقية: معظم الاستثمارات الحكومية تتركز في البنية التحتية والعقارات، وهي قطاعات تخلق وظائف مؤقتة ولا تستوعب ملايين الخريجين.
- تدهور التعليم الفني والجامعي: مخرجات التعليم لا تتوافق مع احتياجات سوق العمل.
- الاعتماد على الاقتصاد الريعي: السياحة والتحويلات والمشروعات العقارية لا توفر وظائف مستدامة.
- الفساد والمحسوبية: الوظائف الحكومية والفرص الجيدة غالبًا ما تُمنح بناءً على العلاقات لا الكفاءة.
الهجرة غير الشرعية… قوارب الموت كحل أخير
مع انسداد الأفق داخليًا، يلجأ كثير من الشباب إلى خيار محفوف بالمخاطر: الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط.
القوارب التي تنطلق من سواحل مصر أو عبر ليبيا تحمل آلافًا كل عام، معظمهم شباب في العشرينات أو أوائل الثلاثينات، يدفعون مدخرات أسرهم لمهربي البشر، في رحلة قد تنتهي بالغرق.
دوافع الهجرة غير الشرعية:
- اليأس من إيجاد وظيفة أو حياة كريمة داخل مصر.
- رغبة في دعم الأسرة ماديًا من خلال العمل في أوروبا حتى بأجر منخفض.
- الهروب من القمع السياسي أو الخدمة العسكرية الإلزامية.
النتائج المأساوية:
- مئات الغرقى سنويًا، في حوادث تتكرر حتى أصبحت أخبار "انتشال الجثث" مألوفة في الإعلام.
- ناجون يروون عن أيام في عرض البحر دون طعام أو ماء، أو عن اعتقالهم في معسكرات احتجاز بليبيا أو إيطاليا.
- أسر تفقد أبناءها دون حتى فرصة لدفن الجثمان.
- فناء العمر في العمل الهش والهجرة الداخلية
- بالنسبة لمن يرفضون ركوب البحر أو لا يملكون تكاليف التهريب، هناك خيار آخر: الهجرة الداخلية إلى المدن الكبرى أو المناطق الصناعية، بحثًا عن عمل مؤقت.
- لكن هذا الخيار غالبًا يعني العمل في وظائف شاقة مقابل أجر زهيد، دون تأمين صحي أو ضمان اجتماعي.
- عامل في ورشة أو بناء أو توصيل طلبات يقضي عشر ساعات يوميًا مقابل دخل بالكاد يكفي الإيجار والطعام، ليجد نفسه بعد سنوات بلا مدخرات ولا مهارات مهنية جديدة، وكأن العمر تبخر بين جدران المصانع والشوارع.
- القمع السياسي والقتل البطيء في السجون
- إلى جانب الضغوط الاقتصادية، يعيش الشباب المصري في ظل تضييق أمني واسع النطاق.
- الانخراط في نشاط سياسي معارض أو حتى التعبير عن الرأي على وسائل التواصل قد يؤدي إلى الاعتقال.
أوضاع السجون:
- الاعتقال التعسفي: آلاف الشباب رهن الحبس الاحتياطي لسنوات دون محاكمة.
- التعذيب وسوء المعاملة: تقارير حقوقية محلية ودولية وثّقت حالات وفاة تحت التعذيب، وأخرى نتيجة الإهمال الطبي.
- انعدام مقومات الحياة: الزنازين المزدحمة، قلة التهوية، نقص الأدوية، ورداءة الطعام.
- قصص كثيرة خرجت من السجون تحكي عن شباب قضوا أجمل سنوات حياتهم خلف القضبان، بعضهم بتهم فضفاضة مثل "الانضمام لجماعة إرهابية" أو "نشر أخبار كاذبة"، وبعضهم بلا تهمة واضحة أصلًا.
الأثر النفسي والاجتماعي
- أزمة الشباب المصري ليست اقتصادية فقط، بل هي أزمة هوية وانتماء وثقة بالمستقبل.
- الإحباط وفقدان الأمل: جيل كامل يشعر أن أحلامه لا مكان لها في بلده.
- تفكك الأسر: الهجرة أو الاعتقال أو الوفاة تترك فراغًا نفسيًا وماديًا كبيرًا في العائلات.
- زيادة معدلات الاكتئاب والانتحار: حالات الانتحار بين الشباب شهدت ارتفاعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، وفق تقارير غير رسمية.
المفارقة الصارخة
في الوقت الذي يرفع فيه الخطاب الرسمي شعارات "تمكين الشباب" و"توفير فرص العمل"، نجد أن الواقع يفرز أرقامًا مقلقة:
- قروض شباب المشروعات الصغيرة تتحول في كثير من الأحيان إلى عبء ديون بدلًا من فرصة للانطلاق.
- برامج التدريب والتشغيل غالبًا ما تكون شكلية، بلا متابعة أو ربط فعلي بسوق العمل.
- المهرجانات والمؤتمرات الشبابية التي تنظمها الدولة، مثل "منتدى شباب العالم"، تستضيف شبابًا أجانب أكثر مما تمس مشكلات الشباب المصري على الأرض.
الحلول الغائبة
لمعالجة هذه الأزمة، يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية حقيقية قبل أي خطة اقتصادية. أبرز ما يطالب به الخبراء:
- إصلاح اقتصادي يركز على الصناعة والزراعة لخلق وظائف حقيقية.
- تطوير التعليم وربطه بسوق العمل، وإحياء التعليم الفني.
- فتح المجال العام ليكون للشباب صوت في صنع القرار.
- إصلاح نظام العدالة، ووقف الاعتقالات التعسفية والإفراج عن سجناء الرأي.
- دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بشكل جاد وليس دعائي.
- لكن حتى الآن، يبدو أن هذه الحلول تبقى حبرًا على ورق في ظل استمرار النهج القائم.
وفي النهاية فإن الشباب المصري اليوم يقف على مفترق طرق قاتم:
بين بطالة تستنزف طاقته، وهجرة غير شرعية قد تنهيحياته، وزنازين تحطم إنسانيته.
جيل كان من المفترض أن يقود التنمية تحول إلى ضحية مباشرة لسياسات اقتصادية غير فعالة، وقمع سياسي غير مسبوق، وغياب رؤية حقيقية للمستقبل.
النتيجة أن مصر تخسر أهم مواردها: شبابها، إما في عرض البحر، أو في المنافي، أو خلف الأسوار، أو في دائرة فقر لا تنتهي.