يعيش قطاع الكهرباء والطاقة في مصر حالة من الاضطراب للشهر الثالث على التوالي، في ظل فرض الحكومة إجراءات تقشفية صارمة على استهلاك الكهرباء في الوزارات والمكاتب الحكومية والميادين والطرق، مبررة ذلك بالسعي لترشيد استهلاك الغاز الطبيعي، بعد تراجع إنتاجه وارتفاع تكلفة استيراده إلى نحو الضعف، إذ بلغت 10.5 مليارات دولار بين يناير ويوليو الماضيين، مع توقع وصولها إلى 20 مليار دولار بنهاية 2025.
وفي بيان رسمي، دعا رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي المواطنين إلى تخفيف الأحمال في المنازل، وعدم الإفراط في تشغيل المكيفات واستهلاك الكهرباء خلال ساعات الذروة الممتدة من منتصف النهار وحتى الثانية عشرة ليلًا، وهي الفترة التي يتصاعد فيها الاستهلاك بالمنازل والمصانع والإنارة العامة. لكن هذه الدعوة لم تقترن بإجراءات مماثلة للحد من الاستخدام المكثف لأجهزة التبريد في مكاتب الوزراء وكبار المسؤولين، خاصة في العاصمة الإدارية ومدينة العلمين، اللتين تحويان مقرات الحكم الصيفية ذات المباني الزجاجية المغلقة التي تعتمد على أنظمة تكييف مركزية طوال الوقت.
ظلام الطريق
على مشارف مدينة بركة السبع بمحافظة المنوفية، وسط دلتا مصر، يُسابق الستيني شاكر بسيوني غروب الشمس لينهي زيارته لمسقط رأسه ويعود إلى منزله في شبرا الخيمة شمال القاهرة. فمع حلول الليل الكثيف وضبابه، يتملكه القلق، إذ يعلم أن قيادة سيارته القديمة في هذا الظلام الحالك بين القرى والمدن محفوفة بالمخاطر، بسبب المطبات العشوائية وحركة المارة العائدين من أعمالهم ومزارعهم.
بخطى السيارة البطيئة، يقطع بسيوني الطريق الزراعي السريع الممتد 210 كيلومترات بين الإسكندرية ووسط الدلتا والعاصمة، محاطًا بأعمدة إنارة صامتة لا تضيء، فيضطر لاتباع السيارات القليلة التي تتحرك على مهل بأنوارها الساطعة. وحين يقترب من مشارف القاهرة، يواجه الدائري الغارق في الظلام، قبل أن يدخل أزقة ضيقة معتمة لا يبدد سوادها سوى أضواء خافتة من بعض المحال. هناك، في الأحياء الشعبية المكتظة، يتسلل الخوف إلى نفسه، إذ تنتشر حوادث السرقة وتجارة المخدرات في تلك العتمة التي تخفي أكثر مما تُظهر.
يصف بسيوني الظلام الحالك بأنه يثير في داخله مخاوف عميقة عليه وعلى أبنائه، شعور لم يعرفه من قبل في سنوات حياته الأولى بوسط الدلتا، حين كانت الكهرباء شبه غائبة عن البيوت. آنذاك، كما يقول لـ"العربي الجديد"، لم يكن غياب الكهرباء يضر الناس، إذ كانت حياتهم تسير في كنف الأمن والأُنس المستمدّين من القيم التي نشأوا عليها.
أما اليوم، فأي انقطاع للتيار يعني فقدان الأمان، وتعطل القدرة على العيش في البيوت، ونفور الناس من محيطهم. فالكهرباء باتت المحرّك الأساسي لكل تفاصيل الحياة: من تشغيل مضخات المياه التي لا تصل إلى الأدوار العليا، إلى تشغيل شبكات الاتصال والإنترنت، وحتى إتمام المدفوعات. ويؤكد بسيوني أن اضطرابات التيار الأخيرة زعزعت ثقة المواطنين في قدرتهم على العيش بأمان، ودَفعت كثيرين منهم إلى الانكفاء داخل منازلهم.
بعد تقاعده، اعتاد بسيوني تنظيم إيقاع حياته وفق ضوء الشمس، فينجز كل شؤونه خلال النهار، ويسرع بالعودة إلى منزله قبل حلول المساء، تفاديًا للبقاء على الطرق في ظروف ضاغطة، كما حدث معه نهاية الأسبوع الماضي.
وبحكم خبرته السابقة في قطاع السكك الحديدية، يدرك بسيوني أن انقطاع الكهرباء كارثة معقدة التأثير، إذ يشل حركة المترو والقطارات ويعطل محطات الوقود والمياه. ويستعيد ما جرى في مدينة الجيزة غرب القاهرة نهاية الشهر الماضي، حين تحولت نصف المدينة إلى ما يشبه "وكر الأشباح" بعد أن تُرك مئات الآلاف من السكان بلا كهرباء ولا مياه ولا إنترنت. واستمر الشلل يومين كاملين، تعطلت خلالهما شبكات النقل والاتصالات، بسبب انفجار كابلات أرضية تربط بين محطتَي محولات جزيرة الذهب وشبكات المياه والكهرباء.
تكرار الأعطال وأزمة الإمدادات
تتزايد الأعطال المتكررة في محطات توزيع الكهرباء، بالتوازي مع الضغوط الكبيرة على محطات التوليد التي تواجه عجزًا حادًا في إمدادات الغاز الطبيعي، وهو عجز لم تتمكن الحكومة من سده رغم توقيعها العديد من الاتفاقيات لشراء الغاز المُسال، بما في ذلك الصفقة "الكبيرة" مع الاحتلال الإسرائيلي لمضاعفة إنتاج الغاز من آبار البحر المتوسط.
ويؤكد خبراء أن هناك مشكلات فنية مزمنة في شبكات توزيع الطاقة، تحدّ من قدرتها على تحمل الأحمال المرتفعة وتلبية الطلب المتزايد من القطاعات الصناعية والخدمية، إضافة إلى الإنارة العامة والاستهلاك المنزلي.
وترجع وزارة الكهرباء هذه الأعطال إلى الارتفاع القياسي في معدلات استهلاك الكهرباء خلال صيف هذا العام، مشيرة في بيان صحافي إلى أن المركز القومي للتحكم في إنتاج وتوزيع الطاقة سجّل، في 28 يوليو الماضي، أقصى حمل تاريخي على الشبكة الموحدة بلغ نحو 38.8 جيجاوات. كما عزت خروج بعض محطات المحولات عن الخدمة إلى الأعطال الطارئة وتلف كابلات الكهرباء جراء ارتفاع درجات الحرارة.
في المقابل، يكشف مسؤول رفيع بشركة شمال القاهرة لتوزيع الكهرباء لـ"العربي الجديد" أن تزايد الانقطاعات يعود بالأساس إلى غياب التمويل اللازم لمشروعات إحلال وتجديد الشبكات المتهالكة، وضعف الصيانة الدورية لمحطات المحولات وأكشاك التوزيع. كما أن الشركات تجد صعوبة في تدبير الأموال اللازمة للصيانة، خاصة في فصل الشتاء الذي يقل فيه استهلاك الطاقة. ويضيف أن تضارب الصلاحيات بين الجهات المسؤولة يعطل إجراءات الصيانة ويحد من الاستثمارات المخصصة لتشغيل الإنارة العامة وصيانة الشوارع والأحياء.