خلال عقدين، شهدت دول الخليج إنفاقاً ضخماً على التعليم والبنية التحتية التعليمية، واستقدمت آلاف الكوادر الأجنبية والعربية، في الوقت نفسه، سجّلت مؤشرات معرفية وتعليمية لمصر أداء متدنّياً بالمقارنة مع دول صغيرة نسبياً في منطقة الخليج، نتج عنه؛ دول كَـقطر والإمارات تحقق مراكز متقدّمة في قوائم جودة أنظمة التعليم بينما مصر تُركّت تتراجع على السلم الدولي، رغم أن جزءاً كبيراً من القوة التعليمية في الخليج هم معلمون مصريون.
هذا التقرير يوضّح أين ومتى وكيف تَمثّل هذا التحوّل ومَا نتائجه على مصر؟!
تاريخياً، كانت مصر مصدرًا رئيسيًا للكوادر التعليمية في العالم العربي، وأظهرت دراسات أكاديمية أن نسبة كبيرة من المعلمين العرب العاملين في دول مجلس التعاون الخليجي هم من مصر، وإحدى الدراسات الأوروبية وملفات بحثية تشير إلى أن مصر تمثّل نسبة كبيرة (حوالي ٣٩٪) من المعلمين العرب المهاجرين إلى الخليج في بحثٍ تناول خبرات التعليم في الإمارات وقطر، والنتيجة العملية أن خبرة وبراعة المعلم المصري تُوظَّف خارج الوطن، بينما النظام التعليمي المصري يفتقد بيئة العمل الجذّابة والرواتب والموارد.
فتتصدر قطر المرتبة الرابعة عالميًا في جودة التعليم، وذلك بفضل اعتمادها على معلمين مصريين متخصصين.
والإمارات تحتل المرتبة العاشرة عالميًا في نفس المجال، بينما تأتي مصر في المرتبة 139 فقط عالميًا، ما يعكس فجوة كبيرة في جودة التعليم بين مصر وهذين البلدين اللذين يعتمدان على نفس الكوادر التعليمية.
هذا الترتيب يسلط الضوء على النقمة الدائمة التي يعاني منها التعليم المصري في الداخل، حيث لا تكفي جهود الدولة الحديثة لتحسين هذا القطاع الحيوي، في حين تستفيد دول الخليج من خبرات المعلمين المصريين في المراكز المتقدمة عالميًا.
في عهد قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، تدهور ترتيب مصر في مؤشرات جودة التعليم على المستويين المحلي والدولي.
في عام 2016، كانت مصر تحتل المرتبة 139 من بين 140 دولة في مؤشر جودة التعليم الابتدائي، وهي مرتبة متأخرة للغاية، مع تدهور مستمر بسبب التراجع الكبير في ميزانيات التعليم والتي انخفضت بنسبة تصل إلى 35% خلال تسع سنوات من حكم السيسي.
تراجعت القدرة الاستيعابية للمدارس الحكومية، التي وصلت إلى 56 ألف مدرسة فقط رغم وجود 23 مليون طالب، وصنفت مصر في مرتبة متأخرة في جودة التعليم العام والعالي وجودة العلوم والرياضيات.
تصاعدت ظاهرة الدروس الخصوصية لتلتهم أكثر من 100 مليار جنيه سنويًا، في دلالة على الفشل الحكومي في توفير تعليم مجاني وجيد.
الأسباب الجوهرية لفرار المعلمين وتراجع مصر
- اقتصاد مُجهد: ضعف الرواتب الحقيقية للمعلمين أمام ارتفاع تكلفة المعيشة والضغط المالي على الدولة.
- بيئة عمل ناقصة: افتقار المدارس الحكومية للموارد، وندرة التدريب المستمر، وتراجع الحوافز المهنية.
- سياسات الانفتاح على الخواص: تشجيع التعليم الخاص وتحويل جزء من التعليم إلى سوق تجاري أدى إلى هجرة أفضل المعلمين إلى مؤسسات تربح أكثر أو إلى وظائف بالخارج.
- إدارة شديدة المركزية: قرارات تنفيذية تهمّ البنية والتمويل دون إشراك أوسع لخبراء التربية والمجتمع المدني. (تأثيرات لاحقة: ارتفاع الدروس الخصوصية، تآكل المساواة في الوصول للتعليم)
وفق بيانات وزارة التعليم المصرية (المذكورة في صحافة محلية)، مصر جاءت 79 في مؤشر المعرفة العالمي (Global Knowledge Index) لعام 2023، ما يدل على تحسّن طفيف لكنه لا يعكس طفرة نوعية.
رغم الأزمة، وُجهت بعض التصريحات الرسمية التي تُقر بالتحديات، حيث قال قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي في نوفمبر 2024 إن العام المقبل سيكون عام التعليم، وأكد حاجة مصر إلى توفير 250 ألف فصل دراسي بتكلفة مالية تقترب من 7.3 مليار دولار لتلبية الحاجة المتزايدة لعدد الطلاب.
لكن الوزير محمد عبداللطيف أثار جدلاً واسعًا بدعوته لمراجعة مجانية التعليم، ما أثار مخاوف سياسية واجتماعية واسعة، واعتُبر ذلك بمثابة إعلان ضمني بأن الدولة لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها في التعليم المجاني.
ما أسباب هذا التدهور؟
- سياسات تقشفية وميزانيات متراجعة: الدعم المالي للتعليم تراجع بعشرات بالمئة، للحفاظ على الإنفاق في قطاعات أخرى تعكس مصالح النظام السياسي بحتة.
- تجريف المناهج ومحاولة محو الهوية: تم إدخال مناهج تفتقد للهوية الوطنية والدينية الحقيقية، مع توجيه رسائل وسياسات تشجع على التطبيع مع إسرائيل، ما خلق أزمة ثقافية في التعليم.
- تسييس التعليم: شمل التشويه السياسي لثورة يناير ورموزها، ما أضعف المناخ التعليمي للطلاب والمعلمين.
- هجرة المعلمين الماهرة: المعلمون المتميزون يجدون فرصًا أفضل في دول الخليج، حيث الرواتب والتقدير أعلى، ما أفقد مصر طاقمًا مهمًا في قطاع التعليم.
تداعيات انهيار التعليم
الفشل في تطوير التعليم أدى إلى إنتاج أجيال غير مؤهلة لسوق العمل، فسادت البطالة بين الشباب بنسبة تقارب 40%، وعانِت البلاد من تراجع المعرفة التقنية والعلمية، ما انعكس سلبًا على مجمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
في المقابل، تستفيد قطر والإمارات من المعلمين المصريين في الارتقاء بمستوياتها التعليمية، ما يبرز ضعف الجهات الحكومية المصرية في استثمار رأس مالها البشري المتوفر لديها.
تأثير الانهيار الاقتصادي
اقتصاد مصر يعاني منذ تولي السيسي السلطة في 2014، حيث تضاعف الدين الخارجي من 41.47 مليار دولار إلى حوالي 370 مليار دولار في 2024، ووصل التضخم إلى أكثر من 32%، ما دفع 30 مليون مصري إلى الفقر، بنسبة تصل إلى 29.7% من السكان.
إنفاق الدولة على الأمن السياسي والطائرات الرئاسية ومشاريع البهرجة الكبرى جرف الموارد عن مؤسسات التعليم، كما أدى نقص الموارد المالية إلى عجز واضح عن تحسين البنية التحتية المدرسية أو دعم المعلمين، ما دفع بالعديد من الكوادر التعليمية للهجرة أو التوجه للعمل في دول الخليج ومنها قطر والإمارات.
وتُظهر الأرقام والإحصاءات أن مصر في عهد السيسي تعاني من أزمة مركبة في التعليم نتيجة تراجع الدعم المالي، سياسات التجهيل، وهجرة الكفاءات.
في المقابل، تستفيد دول الخليج، وخصوصا قطر والإمارات، من إمكانيات المعلمين المصريين في تحقيق تصنيفات عالمية جودة، مما يزيد الطين بلة على مصر التي تحل في ذيل الترتيب العالمي، ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة وموقع مصر بين دول العالم.