تعيش مصر في السنوات الأخيرة تحت وطأة أزمة ديون خانقة، إذ تحولت خدمة الدين الخارجي إلى بند ثقيل يلتهم جزءًا ضخمًا من موارد الدولة، في وقت يعاني فيه المواطن من تضخم جامح وارتفاع غير مسبوق في الأسعار.
في هذا السياق، أعلن البنك المركزي المصري مؤخرًا عن رفع تقديراته لقيمة خدمة الدين الخارجي لعام 2026 بنحو 1.34 مليار دولار، لتصل إلى 25.97 مليار دولار، مقارنة بتقديرات سابقة بلغت 24.63 مليار دولار.
هذه الزيادة ليست مجرد رقم إضافي على ورقة حسابات، بل هي إنذار جديد على حجم التورط في سياسة الاقتراض المفرط التي تتبعها الحكومة منذ سنوات، دون رؤية إنتاجية حقيقية أو خطط تنموية قادرة على كسر حلقة الاستدانة.
الوقائع والأرقام
وفق البيانات الرسمية، ارتفع بند أقساط القروض المستحقة إلى نحو 21.1 مليار دولار في 2026، مقارنة بـ 19.78 مليار دولار في التقديرات السابقة، بينما تقدر مدفوعات الفوائد بحوالي 4.87 مليار دولار.
ويكشف ذلك عن أن الجزء الأكبر من فاتورة خدمة الدين موجه لسداد أصل الدين، بينما تستمر الفوائد في استنزاف المزيد من الموارد.
الأرقام لا تتوقف عند حدود 2026، إذ سجلت خدمة الدين الخارجي في النصف الأول من العام المالي 2024/2025 وحده حوالي 21.3 مليار دولار، مقارنة بـ 15.5 مليار دولار فقط في نفس الفترة من العام السابق، ما يؤكد تسارع وتيرة الاستدانة.
مقارنة تاريخية .. قبل 2013 وما بعدها
نقطة التحول الحقيقية بدأت بعد ثورة 25 يناير 2011، واستمرارًا لما بعدها:
- في عام 2010 تقدر الديون الخارجية بمستوى أقل بكثير، بينما في 2023 ارتفع الدين إلى تريليونات الجنيهات، في حين الدين الخارجي تجاوز 137 مليار دولار، وهو ما يقرب من أربع أضعاف مستواه عام 2010 (حوالي 33.7 مليار دولار)
- ما بين عامي 2000 و2010، كانت نسب الدين القصير الأجل ضمن الاحتياطات النقدية بمصر ضئيلة (قرابة 11.86%)، أما في الفترة 2011–2021 فقد ارتفعت تلك النسب إلى 29%، ما يعكس ربط الاقتصاد المصري بالدخل السريع والمضارب غالبًا.
- نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي ارتفعت من 12% في عام 2012 إلى 40–42% في عام 2024.
هذه الأرقام تدل على تسارع حاد في الاقتراض بعد 2011، مع اعتماد على ديون قصيرة الأجل وسياسات إصلاحية – غالبًا قاسية – لا توصل إلا إلى مزيد من الضغوط الاقتصادية.
سياسات الاقتراض وأثرها
تتبنى الحكومة المصرية نهجًا واضحًا يعتمد على الاقتراض الخارجي كحل سريع لسد العجز في الموازنة وتمويل المشاريع.
إلا أن هذه السياسة، بدلًا من أن تؤدي إلى تحسين الوضع الاقتصادي، عمّقت أزمة الديون وفرضت أعباء ضخمة على الأجيال القادمة.
فالمشاريع القومية الكبرى -كالعاصمة الإدارية والمدن الجديدة- تم تمويلها بمليارات الدولارات، في حين أن العائد الاقتصادي المباشر منها لم يظهر بعد بالشكل الذي يبرر هذا الكم من الاستدانة.
غياب الأولويات الاقتصادية
في الوقت الذي تخصص فيه الدولة مليارات الدولارات لسداد الديون وفوائدها، تتراجع الاستثمارات في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة ودعم الفقراء.
ويشعر المواطن المصري بوضوح بانعكاسات هذه السياسة، إذ يجد نفسه أمام غلاء معيشة خانق، وضرائب ورسوم متزايدة، وخدمات عامة تتدهور جودتها عامًا بعد عام.
التبعات على الحياة اليومية
ارتفاع خدمة الدين يعني ببساطة أن الأموال التي كان يمكن توجيهها لتطوير البنية التحتية أو تحسين الخدمات، تذهب مباشرة إلى البنوك والمؤسسات الدائنة في الخارج.
هذا الوضع يضع الاقتصاد تحت ضغط مزدوج: نقص السيولة المحلية، وارتفاع تكلفة المعيشة.
كما أن استنزاف الاحتياطات النقدية لسداد التزامات الدين يجعل العملة المحلية عرضة لمزيد من التراجع أمام الدولار، ما يفاقم التضخم.
حلقة مفرغة من الديون
خطورة الوضع تكمن في أن استمرار هذه السياسة يخلق حلقة مفرغة: الدولة تقترض لسداد ديون سابقة، ثم تتحمل فوائد أعلى، فتقترض مجددًا لتغطية العجز، وهكذا دواليك.
دون تدخل جذري، سيجد الاقتصاد المصري نفسه أكثر ارتهانًا لشروط الدائنين الدوليين وصندوق النقد والبنك الدولي، مع ما يعنيه ذلك من فقدان القدرة على التحكم في القرارات الاقتصادية السيادية.
وفي النهاية فإن رفع تقديرات خدمة الدين الخارجي إلى 25.97 مليار دولار في 2026 ليس مجرد تعديل رقمي، بل هو دليل على أن الحكومة ماضية في نفس النهج الخطر الذي قاد البلاد إلى نفق الديون.
والمواطن هو من يدفع الثمن يوميًا من قوته ومعيشته، بينما تتبخر فرص التنمية الحقيقية في دوامة الفوائد والأقساط، كما أن مصر تحتاج اليوم إلى تحول جذري في سياستها الاقتصادية، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الاقتراض.