كشف مصدر أن الحكومة ستتجه إلى زيادة واردات المشتقات النفطية اللازمة لتوليد الكهرباء بأكثر من 60% خلال شهر نوفمبر المقبل مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، بحسب تقرير لـ«الشرق بلومبرج».
ووفقاً للتقرير فإن الحكومة تهدف من هذا التحرك إلى تحرير كميات إضافية من الغاز الطبيعي لتصديرها كغاز مسال (LNG)، في محاولة جديدة لتوفير عملة صعبة تُستخدم لسداد مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في قطاع الطاقة داخل مصر.
لكن هذه الاستراتيجية، التي تبدو على الورق محاولة لتحسين الوضع المالي للدولة، تكشف في الواقع عن أزمة هيكلية عميقة في سياسات إدارة الموارد والطاقة، وتطرح مخاطر اقتصادية واجتماعية وأمنية ينبغي تقييمها بجدية.
تصدير الغاز مقابل الظلام المحلي
منذ عام 2022، تشهد مصر أزمة مزمنة في إمدادات الكهرباء، تفاقمت خلال صيف 2023 و2024 بسبب نقص الوقود اللازم لمحطات التوليد. وعوضاً عن معالجة جذور الأزمة من خلال تحسين كفاءة استهلاك الطاقة ودعم إنتاجها المحلي، اختارت الحكومة مساراً معاكساً يقوم على توجيه الغاز للتصدير معتمدة على مشتريات مكلفة من المشتقات النفطية لتغطية العجز الداخلي. هذه السياسة، التي تعني عملياً تفضيل الأسواق الأوروبية والآسيوية على المواطنين المصريين، لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانقطاعات وارتفاع أسعار الكهرباء محلياً.
الخبير الاقتصادي حسين عبد الجواد يرى أن القرار "يحمل خطورة سياسية واجتماعية كبيرة، لأن الحكومة تكرر الخطأ نفسه الذي وقع عام 2012 حين وُجّه الغاز للتصدير رغم النقص المحلي، ما فاقم الاحتقان الشعبي". ويضيف أن "الأولوية الآن يجب أن تكون لضمان أمن الطاقة الداخلي وليس لتسديد ديون الشركات الأجنبية أو تلميع صورة مالية هشّة أمام الدائنين".
اقتصاد الريع وغياب الرؤية الإنتاجية
تعكس الخطوة الجديدة استمرار اعتماد الدولة على سياسة الريع النفطي والغازي بدلاً من بناء اقتصاد إنتاجي متنوع. فبدلاً من الاستثمار في الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة، تواصل الحكومة الرهان على تصدير المواد الأولية مقابل العملة الصعبة. ويرى الخبير عمرو سعد، المتخصص في شؤون الطاقة، أن "تخصيص الغاز للتصدير لن يدعم الاقتصاد إلا مؤقتاً، إذ سيتم إنفاق العائدات على استيراد الوقود بأسعار أعلى، مما يعني خسارة مزدوجة: نزيفاً في النقد الأجنبي واستمرار العجز في الموازنة".
ويضيف سعد أن المشكلة الأكبر تكمن في غياب تقييم واقعي لمعادلة الكلفة والعائد. فمتوسط سعر استيراد المشتقات النفطية يتجاوز ضعف تكلفة توليد الكهرباء من الغاز المحلي، ما يعني أن الحكومة تدفع عملياً مقابل تصديرها بنفسها. وهذا يعيدنا إلى تساؤلات أساسية: لماذا تصر الدولة على تحويل موردها الأساسي إلى سلعة تصديرية بينما تعاني مصانعها ومواطنيها من نقص الكهرباء؟
ثالثاً: أزمة إدارة لا أزمة موارد
مصر ليست دولة فقيرة بالموارد. فهي تمتلك احتياطيات غاز كبيرة في حقل ظهر وغيره، إلى جانب قدرات توليد كهرباء تفوق الطلب الفعلي خلال فترة انخفاض الأحمال. لكن سوء الإدارة وضعف الكفاءة التشغيلية لمحطات الكهرباء، إلى جانب غياب الصيانة المنتظمة، جعل أي اضطراب في الإمدادات يتحول إلى أزمة وطنية.
الخبير الفني محمود الشناوي يؤكد أن “أزمة الكهرباء ليست ناتجة فقط عن نقص الوقود، بل عن سوء توزيع القدرات وتكدس الفاقد بالشبكات.” ويشير إلى أن “الحكومة تتعامل مع المشكلة من منظور نقدي قصير المدى، بينما المطلوب خطة استراتيجية لإعادة هيكلة قطاع الطاقة بما يضمن كفاءة أعلى واستدامة في التمويل.”
البُعد الاجتماعي للقرارات الاقتصادية
قبل شهور فقط، سجلت معدلات التضخم في مصر مستويات قياسية تجاوزت 35% بحسب بيانات البنك المركزي. وفي ظل هذه الأوضاع، فإن أي زيادة في أسعار الوقود المستورد أو الكهرباء المنقولة إلى المستهلك النهائي ستنعكس مباشرة على معيشة المواطنين، خاصة الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي أصبحت تتحمل عبء الإصلاحات الاقتصادية منذ سنوات.
يشير الناشط في قضايا العدالة الاجتماعية خالد المهدي إلى أن “الحكومة تتعامل مع المواطنين كأنهم طرف خارجي في اقتصاد الدولة، بينما هم المتضرر الأول من أي قرار غير مدروس.” ويضيف أن “تحرير الغاز للتصدير، في وقت يعاني الناس من انقطاعات التيار وارتفاع الأسعار، يمثل استخفافاً بحاجات المجتمع.”
إن هذا التحليل لا يمكن فصله عن سياق عام من غياب الشفافية في صياغة السياسات الاقتصادية، حيث يُتخذ القرار داخل دوائر مغلقة دون مشاركة برلمانية فعالة أو نقاش عام حول كلفته ومردوده.
أولوية الديون أم أولوية الخدمات؟
تشير تقارير اقتصادية إلى أن الحكومة تسعى من خلال زيادة صادرات الغاز إلى رفع احتياطها من العملة الأجنبية لسداد أقساط وفوائد الديون الخارجية، والتي تجاوزت 170 مليار دولار في منتصف 2025. وبهذا تصبح سياسات الطاقة أداة لخدمة الدين، لا لخدمة التنمية أو المواطن.
يسأل الخبير المالي طارق نبيل: "هل من المنطقي أن نزيد وارداتنا الباهظة فقط كي نحافظ على تصنيف ائتماني هش؟ ماذا عن الاستثمار في مشروعات جديدة للطاقة الشمسية أو استكمال خطط الربط الإقليمي لتقليل الاعتماد على الوقود المستورد؟"
الجواب، كما يبدو من أداء الحكومة، هو أن التفكير قصير المدى يطغى على الضرورات الاستراتيجية. فتأجيل الأزمة إلى المستقبل صار هو أسلوب الحكم، ولو على حساب الاستقرار الداخلي.
الشفافية الغائبة والمساءلة المطلوبة
أحد أبرز أوجه القصور في إدارة ملف الطاقة هو غياب الشفافية حول العقود واتفاقات التصدير. فالمواطن لا يعلم بشروط البيع للأسواق الآسيوية أو الأوروبية، ولا بكيفية احتساب العائدات، ولا حتى بآلية توزيعها على الخزانة العامة. في المقابل، تتوالى الوعود الرسمية بتحسين جودة الخدمات من دون أي مؤشرات ملموسة.
منظمات المجتمع المدني مثل المبادرة المصرية للحقوق الشخصية طالبت مراراً بضرورة الإعلان عن تفاصيل عقود الطاقة وبيانات إنتاج الغاز وتدفقات الصادرات، لكن الحكومة ترفض الإفصاح بدعوى "الحفاظ على الأمن القومي الاقتصادي"، وهو تعبير فضفاض يستخدم لتبرير التعتيم.
هذا الغياب للمساءلة يفتح الباب أمام شبهات حول طريقة إدارة الملف، ويضعف الثقة بين الدولة والمواطن. فحين تكون الكهرباء سلعة نادرة، وتتحول فواتير الطاقة إلى عبء متزايد، يصبح من المشروع التساؤل: من المستفيد الحقيقي من هذه السياسة؟
الخطر في استمرار المسار لا في تغييره
إن خطة الحكومة لزيادة واردات الوقود وتحرير الغاز للتصدير ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة من القرارات القصيرة النظر التي تضع هدف تحصيل النقد الأجنبي فوق أي اعتبار اجتماعي أو إنتاجي. إن سياسات من هذا النوع قد توفر بعض العائدات المؤقتة لكنها في المدى المتوسط تهدد الأمن الاقتصادي والاستقرار الداخلي.
المطلوب اليوم ليس تصدير الأزمة عبر تصدير الغاز، بل مواجهة جذورها بإصلاحات شجاعة: إعادة هيكلة الدعم بطريقة عادلة، تحسين كفاءة إدارة محطات الكهرباء، تقليل الفاقد في الشبكات، وتوجيه الموارد نحو الإنتاج الحقيقي لا إلى تسديد فوائد الديون.
إذا استمرت الحكومة في نفس النهج، فإن مصر قد تدخل شتاءً مليئاً بالعتمة، لا بسبب نقص الوقود فقط، بل بسبب غياب الرؤية.