قبل بضع سنوات، كانت مصر تحتفل أمام العالم بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، بعد اكتشاف وتشغيل حقل "ظهر" العملاق. وقد اعتُبرت هذه الخطوة إنجازًا تاريخيًا، حيث ضخّمت وسائل الإعلام الرسمية الحديث عن تحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة.
لكن هذا الحلم تبخّر سريعًا، لتجد البلاد نفسها في وضع متناقض: استيراد الغاز من إسرائيل بعقود طويلة الأمد وبمليارات الدولارات، وهو ما يثير الغضب والدهشة في آن واحد.
كيف انتقلت مصر من دولة مصدرة للغاز إلى دولة تشتري الغاز من عدو الأمس؟ ولماذا اختارت الحكومة إهمال تطوير الإنتاج المحلي وتفضيل ربط الاقتصاد المصري بمصالح تل أبيب؟
 

حقل ظهر: فرصة ضائعة بسبب الإهمال
حقل "ظهر"، الذي اكتُشف في عام 2015 وكان يحتوي على احتياطي يُقدّر بحوالى 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، كان يمثل فرصة ذهبية لوضع مصر على خريطة الطاقة العالمية.
وقد وصل إنتاج الحقل إلى ذروته في عام 2019، حينما أعلنت الحكومة عن وقف استيراد الغاز وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ولكن، بدلًا من استثمار هذه الفرصة لتطوير حقول أخرى وتعزيز الاحتياطي المحلي، تعاملت الحكومة مع حقل ظهر وكأنه كنز أبدي لن ينضب.

ومع مرور الوقت، بدأ الإنتاج في التراجع، وهو أمر طبيعي في أي حقل، لكن غير الطبيعي كان غياب خطة واضحة لتعويض هذا الانخفاض.
فضلاً عن تأجيل حفر آبار جديدة بسبب تأخر سداد مستحقات الشركات الأجنبية، ما أدى إلى أن تجد مصر نفسها تعاني فجوة في الإمدادات بدلاً من أن تحافظ على موقعها كمصدّر للطاقة.
 

من التصدير إلى الارتهان لإسرائيل
في خطوة اعتُبرت "استراتيجية" من جانب الحكومة، تم توقيع اتفاقيات مع شركات إسرائيلية لاستيراد الغاز بهدف إعادة تصديره بعد تسييله في محطات إدكو ودمياط.
ولكن، ما تكشف لاحقًا هو أن هذا الغاز الإسرائيلي بدأ يُستخدم في السوق المحلي لتغطية العجز الناتج عن تراجع الإنتاج المصري.

وتتضح المفارقة حين نعلم أن مصر كانت تُصدّر الغاز لإسرائيل بأسعار منخفضة في عهد حسني مبارك، بينما أصبحت الآن مضطرة لدفع أضعاف السعر لشراء الغاز منها، بسبب إهمال الحكومة في الحفاظ على فائض إنتاجها.
 

صفقة الـ 35 مليار دولار: قيد طويل الأمد
الصفقة التي أثارت الجدل في عام 2025، تنص على استيراد 130 مليار متر مكعب من الغاز من إسرائيل على مدار 15 عامًا، بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار.
وهذه الصفقة تم إبرامها في وقت تخوض فيه البلاد أزمة ديون خانقة، وتشهد ارتفاعًا عالميًا في أسعار الطاقة، مما يجعل مصر رهينة للإمدادات من دولة تشن عدوانًا مستمرًا على الشعب الفلسطيني، وتفتح الباب أمام ابتزاز سياسي واقتصادي.

ويبرر المنقلب السيسي هذه الصفقة بأنها ضرورية لضمان أمن الطاقة، لكن هذه الحجة تكشف فشل الحكومة في إدارة الموارد المحلية. فـ ضمان أمن الطاقة يجب أن يبدأ من تطوير الحقول المحلية، وليس من خلال الارتماء في أحضان تل أبيب.
 

كيف فرّطت الحكومة في الغاز المصري؟

  1. غياب التخطيط الاستراتيجي: لم تضع الحكومة خطة لتعويض تراجع الإنتاج في الحقول الكبرى، خصوصًا حقل "ظهر".
  2. إهمال الاستثمار المحلي: الاعتماد على الشركات الأجنبية دون تحفيز التنقيب الوطني جعل مصر رهينة لتقلبات السوق.
  3. بيع الغاز بأسعار منخفضة: تصدير الغاز إلى إسرائيل والأردن بأسعار زهيدة في السنوات الماضية حرم مصر من احتياطي مهم لمواجهة الأزمات.
  4. تقديم مصالح سياسية على المصلحة الوطنية: توقيع عقود طويلة الأمد مع إسرائيل في وقت تشهد فيه الأراضي الفلسطينية حربًا وحصارًا، ما يُشوه صورة مصر ويضعها في موقف تابع اقتصاديًا.

 

الآثار الكارثية لهذه السياسة

  • ماليًا: استنزاف مليارات الدولارات من العملة الصعبة على استيراد الغاز بدلاً من استثمارها في تنمية الإنتاج المحلي.
  • اقتصاديًا: ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز للمستهلكين المحليين بحجة تكاليف الاستيراد.
  • سياديًا: فقدان استقلالية القرار في ملف حيوي، حيث أصبح الاقتصاد المصري معرضًا لضغوط سياسية من إسرائيل وحلفائها.
  • شعبيًا: إحباط وغضب واسع في الشارع المصري، حيث يرى الشعب أن موارد بلاده تُهدر لصالح عدو تاريخي.

 

النتيجة: فشل استراتيجي واستهتار بالمصالح الوطنية
ما حدث مع ملف الغاز، من الاكتفاء الذاتي إلى الارتهان لإسرائيل، لا يُعتبر مجرد خطأ إداري، بل هو فشل استراتيجي يعكس سوء إدارة الموارد الوطنية وغياب الرؤية المستقبلية.
لم تُحافظ الحكومة على مكتسبات حقل ظهر، كما أنها أهملت تطوير الحقول الأخرى. ثم اختارت الحكومة الطريق الأسهل: استيراد الغاز من إسرائيل، حتى وإن كان ذلك يعني التنازل عن السيادة الاقتصادية وإهدار المليارات.

وإذا استمرت هذه السياسات، فإن ما تبقى من مواردنا الطبيعية قد يُضيع هو الآخر في صفقات مشبوهة، لن يدفع ثمنها سوى المواطن المصري.