في 13 أغسطس 2025، دافع رئيس حكومة الانقلاب العسكري المصري مصطفى مدبولي في مؤتمره الأسبوعي عن خطة الحكومة لـ«طرح الأراضي غير المستغلة على كورنيش النيل كفرص استثمارية» بالشراكة مع القطاع الخاص، في القاهرة والجيزة والقليوبية. جاء ذلك بعد خطوات تنفيذية لسحب اختصاص وزارة الموارد المائية والري في إدارة الشريط المحاذي للنهر ونقلها إلى شركة «وطنية» تابعة للمؤسسة العسكرية تُعنى بحماية الشواطئ والمسطحات المائية، هكذا انتقلت اليد التي تُدير ضفاف النيل من سلطة مدنية إلى ذراع اقتصادية عسكرية، تمهيدًا لتسويقها لمستثمرين. (

 

مسارٌ ممتد من «العسكرة» إلى الخصخصة

لم يأتِ ذلك من فراغ؛ فمسار نقل الأصول العامة لهيئات تتبع القوات المسلحة ممتد منذ سنوات، فوفق قرارات رئاسية سابقة، جرى توسيع ولاية جهات عسكرية على أراضٍ وجزر نيلية، ونقل إدارة واجهات النيل من وزارة الري إلى جهات عسكرية تنفيذية.

واليوم، يُستكمل المسار بواجهة «شركة» تابعة للجيش لإدارة واستثمار هذا المورد العام، بالتوازي، أعلنت الحكومة مرارًا نيتها طرح حصص في شركات عسكرية عبر صندوق مصر السيادي، استجابة لاشتراطات برنامج صندوق النقد الدولي لتعزيز دور القطاع الخاص

 

تفاصيل الإخلاءات ووقف الانتفاع

على المستوى الإجرائي، تلقّت جهات تعليمية وخدمية وترفيهية تقع على ضفاف النيل، ومنها بمنطقة منيل الروضة وجنوب القاهرة، خطابات بإلغاء عقود حق الانتفاع وعدم تجديدها، مع طلب الإخلاء الفوري لما على «أراضي طرح النهر» من منشآت.

هذه المخاطبات عزّزت الانطباع العام بأن الدولة تُفرغ الشريط النيلي تمهيدًا لتغيير نمط استخدامه وتسويقه لمستثمرين.(

 

لماذا الآن؟ الاقتصاد المأزوم يدفع ثمنه النيل

الحكومة تبرر «فتح الباب للقطاع الخاص» بالحاجة لتنشيط الاستثمارات وسد فجوات التمويل، لكن الأرقام تُظهر أن السياق هو أزمة موارد مزمنة: مصر وقّعت في 6 مارس 2024 اتفاقًا موسّعًا مع صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار، بعد تعويم حاد للجنيه.

وفي 2025، تتوقع المالية سداد نحو 16 مليار دولار التزامات دين خارجي؛ ما يضغط على السيولة الدولارية ويدفع لتسييل أصول عامة سريعة العائد، بهذا المعنى، طرح ضفاف النيل ليس «رؤية عمرانية» بقدر ما هو بيع اضطراري للأصول.

 

أثر القرار.. من شاطئ عمومي إلى بوابات استثمار

«كورنيش» النيل تاريخيًا فضاء حضري مفتوح ومتنفّس لمدن مكتظة، نقل الإدارة لكيان تجاري عسكري ثم طرحه للاستثمار يعني عمليًا إعادة تعريف الحق في الوصول إلى النهر، عبر بوابات مشروعات فندقية وتجارية مغلقة، ورسوم دخول، ومساحات مُسيّجة، بدل المساحات العامة المفتوحة.

التجارب المماثلة في تطوير واجهات نهرية بمصر أفضت غالبًا إلى إزاحة المستأجرين الصغار والأنشطة الخدمية غير الربحية لصالح مشروعات عقارية وسياحية مرتفعة الكلفة، وهو ما بدأت مؤشراته بالظهور في قرارات الإخلاء وتعطيل تراخيص الأنشطة على «طرح النهر.

 

أرقام الاقتصاد لا تَطمئن

صحيح أن التضخم السنوي الحضري هبط إلى 13.9% في يوليو 2025 مقارنة بذروته في 2023، لكن هذا التحسن الجزئي جاء بعد موجات غلاء قاسية وتعويمات متلاحقة أنهكت الدخول الحقيقية للأسر.

ووفق بيانات رسمية، ظل التضخم الأساسي عند 11.6%، ما يعني بقاء الضغوط السعرية راسخة.

وفي الخلفية، انكمشت موارد السفر بقوة مع هبوط مرور السفن بقناة السويس خلال 2024 بسبب التوترات الإقليمية، وهو ما حرم الموازنة من واحد من أهم مصادر النقد الأجنبي.

 

صوت الحكومة… وصوت الشارع

قال مدبولي إن الدولة «لا تبيع أصولها»، بل «تُشرك القطاع الخاص في استغلال أراضٍ غير مستغلة» بهدف مضاعفة العائد.

لكن المقاربة تتجاهل أن نقل الإدارة إلى شركة عسكرية يُقصي أجهزة رقابية ومدنية، ويُعقّد الشفافية والمساءلة حول التخصيصات والأسعار وشروط التعاقد.

كما أن تسويق الواجهات النيلية في مدن كثيفة الفقر والبطالة يصطدم بحقوق السكان في منفذ نهري مجاني ومساحات عامة، لا سيما مع تآكل الأجور الحقيقية بعد التعويم.

التصريحات الرسمية لا تُجيب: كم ستبقى مساحة عامة مفتوحة؟ ما نسب الإسكان/التجارة/الفنادق؟ وكيف ستُنشر العقود وأسعار الطرح؟

 

من الخصخصة «المشروطة» إلى بيع المجال العام

جزء أساسي من برنامج الصندوق هو «توسيع دور القطاع الخاص» عبر بيع حصص في شركات عامة، بما فيها شركات مملوكة للجيش.

الجديد هنا أن المجال العام نفسه ضفاف النيل دخل سلة الأصول القابلة للتسييل، وإذا كانت الحكومة تَعِد بطرح حصص في «سافي» و«وطنية» و«سلو فودز» وشركات طرق، فإن إدارة الشريط النهري عبر شركة تابعة للجيش ثم عرضه للاستثمار، يضع موارد طبيعية وتراثًا حضريًا في مسار مشابه؛ تحوّل من سلعة عامة إلى أصل استثماري محكوم بعقود خاصة.

 

المخاطر: شفافية ضعيفة، تركّز للثروة، وتآكل للهوية الحضرية

عقود الاستثمار على واجهات النيل إذا تمت دون مناقصات علنية وتفاصيل منشورة ستفاقم تركّز الثروة في أيدي قِلة مترابطة مع السلطة، وتُضعف قدرة المجتمع المحلي على انتزاع حصته من العائد (مساحات عامة، حدائق، مراسي نيلية منخفضة التكلفة).

كما أن تحويل «كورنيش» النيل إلى سلسلة فنادق ومولات سيُفقر هوية القاهرة الحضرية، ويطرد الأنشطة الشعبية والثقافية التي نشأت حول النهر خلال قرن.

فوق ذلك، ارتباط الشركة المُفوّضة بالمؤسسة العسكرية يُصعّب الطعن والمساءلة، لأن العلاقة تصبح مع كيان ذي حصانة سياسية وإدارية واسعة.

 

البديل: استثمار عام شفاف بشراكات عادلة

إذا كان الهدف تنشيط الاستثمار، فالمسار الممكن والأقل كلفة اجتماعية هو تطوير الواجهات النيلية عبر هيئات مدنية منتخبة (المحافظات/المجالس المحلية) وبمشاركة مجتمعية مسبقة، مع عقود شراكة علنية تحدد بوضوح نسب العائد، والحد الأدنى لمساحات عامة مفتوحة مجانًا، وسقوف للأسعار، وتقييم بيئي ملزم، ومراجعة قضائية للعقود. يمكن كذلك إنشاء صندوق مخصّص لصيانة الكورنيش والمراسي يُموّل بجزء من أرباح أي مشروع خاص، على أن تُنشر حساباته ربع سنويًا. هذا يحمي حق الناس في النيل، ويمنع تحويله إلى «حائط مدفوع».

 

اختيار سياسي مُقنّع بلباس اقتصادي

بيع ضفاف النيل ولو بالتدريج ليس حتميًا اقتصادياً؛ إنه اختيار سياسي لتغطية فجوات تمويل صنعَتها سياسات توسعية غير مُنتجة، وتعويمات متكررة، واعتماد مفرط على الديون، وحين تتحول شركة عسكرية إلى بوابة إدارة النهر وطرحه للاستثمار، يصبح السؤال أبعد من «التنمية»: من يملك المجال العام في مصر، ومن يقرر مصيره المجتمع والدولة المدنية، أم تحالف السلطة والمال؟

مراجع أساسية للوقائع والأرقام: تصريحات رئيس الوزراء حول طرح أراضي الكورنيش، ونقل إدارة الشريط النيلي لشركة تابعة للجيش وقرار إعادة طرحه؛ برنامج صندوق النقد واتجاه خصخصة الشركات العسكرية؛ أرقام التضخم وسداد الدين الخارجي؛ وتراجع إيرادات القناة في 2024. (