في مشهد صادم لكنه متوقع في ظل ما تعيشه مصر اليوم من فراغ أمني حقيقي، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الأخيرة مقطعًا مصورًا يظهر قيام بعض سائقي التريلات بالإمساك بثلاثة لصوص حاولوا سرقة هواتفهم المحمولة. وقد قرر السائقون تقييدهم وربطهم بعرباتهم في محاولة لتنفيذ العدالة الغائبة.
هذه الحادثة ليست مجرد واقعة جنائية عابرة، بل هي انعكاس صارخ لحالة الإهمال الأمني التي أصبحت سمة بارزة في عهد عبد الفتاح السيسي. فقد تحول جهاز الأمن من مؤسسة معنية بحماية المواطنين وممتلكاتهم إلى أداة مسخرة لقمع المعارضة ومطاردة النشطاء السياسيين والإعلاميين، بينما تُركت الشوارع فريسة للصوص والبلطجية وتجار المخدرات.
ما الذي يدفع المواطنين إلى أن يتحولوا بأنفسهم إلى "شرطة موازية"؟ وما دلالات هذا الانهيار في هيبة القانون؟ وكيف فشل النظام الحاكم في تحقيق أبسط واجبات الدولة: الأمن والعدالة؟
غياب الردع.. الأرضية الخصبة لتصاعد الجريمة
الجريمة لا تزدهر إلا حين يغيب الرادع.
وهذا ما يحدث بالضبط في مصر اليوم:
- غياب الدور الفعلي للشرطة في ملاحقة اللصوص والبلطجية جعل الشوارع مرتعًا خصبًا للجرائم اليومية، من سرقة وخطف واعتداءات علنية بالسلاح الأبيض.
- أصبح المواطنون يدركون أن اللجوء إلى الشرطة لا جدوى منه، إما بسبب بطء الاستجابة أو لانشغال الأجهزة الأمنية بمهام أخرى غير حماية المواطنين.
- الإفلات من العقاب أصبح القاعدة: حتى إذا تم القبض على لص أو بلطجي، غالبًا ما يتم إطلاق سراحه سريعًا بطرق ملتوية أو بفضل الفساد الإداري، ليعود إلى الجريمة مجددًا.
الأمن في خدمة النظام لا المواطن
أحد أكبر التناقضات في المشهد المصري هو أن جهاز الشرطة، الذي يلتهم مليارات الجنيهات من ميزانية الدولة سنويًا، بات يوجّه جل اهتمامه إلى قمع الحريات والمعارضة:
- اعتقالات عشوائية تطال صحفيين وحقوقيين وأصحاب رأي، بينما يسرح تجار المخدرات في الأحياء الشعبية.
- مداهمات وكمائن تستهدف الشباب لمجرد الاشتباه في انتماء سياسي، بينما عصابات البلطجية تسيطر على مناطق كاملة في وضح النهار.
- ميزان الأمن اختل تمامًا: حماية النظام والحاكم أصبحت أولوية مطلقة، أما أمن المواطن العادي فقد أصبح أمرًا ثانويًا أو غير محسوب.
حادثة سائقي التريلات: عدالة بديلة
ما فعله سائقي التريلات من الإمساك باللصوص وتقييدهم وربطهم بعرباتهم ليس سوى تعبير يائس عن انهيار ثقة المواطن في أجهزة الدولة.
المواطن البسيط، الذي يدفع ثمن الأمن من ضرائب ورسوم باهظة، لم يعد يشعر أن الشرطة موجودة لحمايته.
هذا السلوك يعكس العودة إلى "عدالة الغابة"، حيث يتولى الفرد أو الجماعة رد الاعتداء بمعزل عن القانون.
ورغم أن الواقعة نالت تعاطفًا واسعًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، إلا أنها تحمل خطورة كبيرة: فتح الباب أمام الانتقام الشخصي والفوضى.
انعكاسات اجتماعية خطيرة
- تآكل الثقة في مؤسسات الدولة: عندما يفقد المواطن ثقته في جهاز الأمن، فإنه يفقد ثقته في الدولة بأكملها.
- انتشار العنف المجتمعي: مواجهة الجريمة بالجريمة تولّد دوامة من العنف لا تنتهي.
- صعود ثقافة البلطجة: حين يرى اللصوص أن الشرطة متقاعسة، وحين يشعر المواطن أنه مضطر لحماية نفسه بنفسه، تتفشى ثقافة البلطجة كوسيلة "طبيعية" للنجاة.
- انهيار هيبة القانون: عندما تُدار الشوارع بالأسلحة البيضاء أو عبر "عدالة التريلات"، تصبح القوانين مجرد نصوص شكلية لا وجود لها في الواقع.
الأمن الحقيقي: غائب عمداً
لا يمكن القول إن هذا الانهيار الأمني مجرد صدفة.
يرى كثير من المراقبين أن النظام الحاكم يترك عمداً مساحات للفوضى والجريمة ليبقى المواطن أسير خوف دائم، ويقبل بأي بطش أمني تحت شعار "الاستقرار".
إنها سياسة حكم بالترهيب: ترك الشارع يكتوي بنار الجريمة، ثم تقديم النفس كـ"المنقذ" حين يشاء.
وفي الوقت ذاته، يُستخدم فائض القوة الأمنية في كسر أي صوت معارض أو أي محاولة لتنظيم احتجاج سلمي.
جرائم بلا محاسبة
الأرقام الرسمية نفسها تكشف التناقض:
- ارتفاع معدلات الجرائم الجنائية والسرقات بشكل متسارع خلال السنوات الأخيرة.
- انتشار تجارة المخدرات بشكل علني في مناطق عدة دون تدخل أمني يُذكر.
ورغم ذلك، لا يمر شهر دون إعلان وزارة الداخلية عن "ضبط خلية إرهابية" أو "إحباط مخطط ضد الدولة"، بينما يغيب الحديث عن مواجهة الجرائم اليومية التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر.
نحو دولة بوليسية بلا أمن
المفارقة أن مصر اليوم تُوصف بأنها دولة بوليسية بامتياز، لكنها من دون أمن حقيقي.
- الكاميرات والكمائن الأمنية تغطي الشوارع، لكنها موجهة لمراقبة المواطنين وليس لحمايتهم.
- الانتشار الأمني الكثيف في المناسبات السياسية أو أثناء المظاهرات، يقابله غياب تام حين يتعلق الأمر بمواجهة عصابات سرقة أو مجرمين مسلحين.
- المواطن يدرك أن الشرطي قد يوقفه للتفتيش عن منشور على "فيسبوك"، لكنه لن يتدخل إذا رأى لصًا يشهر سكينًا في وضح النهار.
حين تُغيب الدولة وظيفتها الأساسية
حادثة سائقي التريلات لم تكن سوى جرس إنذار إضافي يضاف إلى سلسلة طويلة من الحوادث اليومية التي تكشف انهيار المنظومة الأمنية في مصر. فالمواطن المصري اليوم يواجه معادلة عبثية:
- جهاز أمني ضخم موجه ضد الحريات والمعارضين.
- فراغ أمني في مواجهة الجرائم اليومية التي تمس حياة الناس.
- غياب العدالة، وتحوّل المواطن إلى قاضٍ وجلاد في الوقت ذاته.
إنها ليست مجرد أزمة أمنية، بل أزمة دولة. فحين تفقد الدولة القدرة أو الإرادة لحماية مواطنيها، فإنها تفقد مبرر وجودها الأساسي.
وما نشهده اليوم في مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي ليس إلا صورة قاتمة لدولة تحولت فيها الشرطة إلى جهاز سياسي، وترك المواطن وحيدًا في مواجهة لصوص وبلطجية وتجار مخدرات.