في مشهد لا يخلو من المفارقة والصدمة، أعلنت حكومة عبد الفتاح السيسي تحقيق فائض أولي بقيمة 629 مليار جنيه في الموازنة العامة للعام المالي 2024/2025.
الرقم في حد ذاته ضخم ويعكس وفقًا للرواية الرسمية نجاحًا اقتصاديًا وإدارة مالية رشيدة.

لكن ما وراء الأرقام يفضح واقعًا مختلفًا تمامًا: شعب مسحوق تحت وطأة الغلاء، قطاعات حيوية منهارة، خدمات عامة في تراجع، وفقراء يبحثون عن أبسط مقومات الحياة بينما تُكدس الأموال لترضية الدائنين وسداد القروض وفوائدها.
 

إنجاز اقتصادي أم وهم رقمي؟

الفائض الأولي يُعرّف عادة بأنه الفرق بين الإيرادات العامة للدولة والمصروفات، مع استبعاد مدفوعات خدمة الدين (الفوائد).

وبذلك، فإن إعلان الحكومة تحقيق فائض أولي لا يعني بالضرورة تحسن الاقتصاد أو رخاء المواطنين، بل يعني أن الدولة تُحقق وفورات مالية لتسديد ديونها، حتى وإن كان ذلك عبر فرض مزيد من الضرائب والرسوم، وحرمان الشعب من أبسط حقوقه في التعليم والصحة والخدمات.
 

شعب يئن تحت الغلاء

منذ سنوات، يعاني المصريون من موجات متتالية من ارتفاع الأسعار، حتى أصبحت أبسط السلع الغذائية خارج متناول شرائح واسعة من المجتمع.

الخضروات، اللحوم، الألبان، الدواء، المواصلات،ارتفعت أسعارها بشكل غير مسبوق. المواطن البسيط، الذي بالكاد يتدبر قوت يومه، يسأل بحيرة: إذا كانت الحكومة تُحقق فوائض بالمليارات، فلماذا لا ينعكس ذلك على أسعار الخبز أو الدواء أو المواصلات؟

إن إعلان الفائض بهذا الشكل في وقت يعاني فيه ملايين المصريين من الفقر المدقع يضع الحكومة في مواجهة سؤال أخلاقي قبل أن يكون اقتصاديًا: لمن تُدار موارد الدولة؟ ولصالح من يتم تحقيق هذه الأرقام؟
 

خدمات منهارة رغم المليارات

قطاع الصحة في مصر يواجه أزمات متراكمة: مستشفيات متهالكة، نقص أدوية، رواتب ضعيفة للأطباء والممرضين، وإهمال للقرى والمناطق المهمشة.

كذلك يعاني قطاع التعليم من تكدس الفصول، ضعف المناهج، وهجرة المعلمين المتميزين.

ورغم أن هذه القطاعات هي أساس أي تنمية حقيقية، إلا أن نصيبها من الموازنة لا يزال ضئيلاً مقارنة بما يُصرف على سداد القروض وفوائدها.

وهنا تبرز المفارقة: كيف تُعلن الحكومة عن فائض مالي يفوق نصف تريليون جنيه بينما المدارس بحاجة إلى مقاعد إضافية، والمستشفيات بحاجة إلى أجهزة تنفس صناعي وأدوية أساسية؟
 

أولوية الدائنين على حساب الشعب

الحقيقة أن الفائض الأولي ليس موجهًا لخدمة الشعب، بل لتقديم "ضمانة" للدائنين الدوليين بأن مصر قادرة على سداد التزاماتها.

صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يطالبان دومًا بتحقيق فائض أولي لضمان تدفق الأقساط والفوائد.

وهكذا، تتحول الموازنة العامة إلى دفتر حسابات يخدم البنوك والدائنين، بينما يعيش الشعب في أزمة اقتصادية متفاقمة.
 

الضرائب والرسوم.. وقود الفائض

لم يتحقق هذا الفائض من خلال زيادة الإنتاج أو نمو اقتصادي حقيقي، بل عبر سياسات مالية قائمة على فرض المزيد من الضرائب والرسوم.

المواطن اليوم يدفع ضرائب مباشرة وغير مباشرة على كل شيء تقريبًا: من فاتورة الكهرباء والغاز، إلى البنزين، وحتى المشتريات الصغيرة.

الرسوم الحكومية ارتفعت بشكل متواصل، من استخراج الأوراق الرسمية، إلى رسوم المرور، وحتى دخول بعض الحدائق.

وبينما تتباهى الحكومة بتحقيق فائض، فإن هذا الفائض في الحقيقة هو أموال انتُزعت من جيوب المواطنين البسطاء.
 

تجويع ممنهج ونهب منظم

السياسات الاقتصادية المتبعة تكشف عن توجه ممنهج نحو تجويع الشعب وضمان سداد الديون.

فبدلًا من توجيه الموارد لتحسين الخدمات، تُستخدم لإرضاء المؤسسات المالية الدولية.

وفي هذا الإطار، تُفرض إجراءات تقشفية على الشعب، بينما تُنفذ مشروعات ضخمة لا تخدم احتياجات الناس اليومية، مثل العاصمة الإدارية أو الأبراج الفاخرة.

إنها معادلة جائرة: شعب يدفع الثمن، وحكومة تتفاخر أمام الدائنين.
 

تزييف وعي بالأرقام

الترويج للفائض على أنه إنجاز اقتصادي هو في جوهره عملية تزييف للوعي.

الحكومة تحاول إقناع المصريين بأن الاقتصاد في طريقه للتعافي، بينما حياتهم اليومية تكشف العكس تمامًا.

فهل يشعر المواطن بتحسن في دخله أو خدماته؟ هل انخفضت الأسعار؟ هل تحسنت المستشفيات والمدارس؟ الإجابة الواضحة: لا.
 

الطريق المسدود
استمرار هذه السياسات يضع مصر في طريق مسدود:

  • ديون تتراكم عامًا بعد عام.
  • شعب يزداد فقرًا وغضبًا.
  • خدمات أساسية تنهار.
  • مشروعات استعراضية تُموَّل على حساب معيشة الناس.

وفي النهاية، قد تجد الحكومة نفسها أمام أزمة اجتماعية لا تقل خطورة عن الأزمة الاقتصادية.

كما إن إعلان تحقيق فائض أولي بقيمة 629 مليار جنيه قد يُسعد صندوق النقد والبنوك الدولية، لكنه لا يسعد المواطن المصري الذي لا يجد ثمن العلاج أو التعليم لأطفاله.
ما قيمة هذه الأرقام إذا كانت الأسر تُطرد من بيوتها لعجزها عن دفع الإيجار، والطلاب يتكدسون في الفصول، والمرضى يموتون على أبواب المستشفيات؟

إنها سياسة تفضح جوهر حكم السيسي: دولة تُدار لخدمة الدائنين، لا لخدمة مواطنيها.