منذ تولي عبد الفتاح السيسي السلطة بالقوة في يوليو 2013، تحولت مصر إلى دولة بوليسية تشهد انتهاكات موسعة ممنهجة بحق المواطنين، وتدهوراً حاداً في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تظهر حوادث الوفاة والقتل تحت التعذيب والاختفاء القسري وذبح العدالة أمام أعين الجميع، فيما يستمر النظام في سياسة الاقتراض والهبات الخارجية لإنقاذ اقتصاده المحتضر، خاصّة من الكويت.

فقد اتجهت مؤسسات الدولة منذ عام 2013 إلى تعزيز نفوذ الأجهزة الأمنية على حساب حياة وحقوق المواطنين، في ظل هذه السياسة، عادت ظاهرة الإفلات من العقاب إلى الواجهة، حيث تتكرر حوادث وفاة مواطنين داخل أقسام الشرطة، وسط غياب أي محاسبة جادة للمسؤولين.

حادثتا وفاة وليد أحمد طه الموظف ببنك مصر في قسم ثان شبرا الخيمة، والشاب حازم فتحي في نجع حمادي، ليستا سوى حلقتين في سلسلة طويلة تكشف أن حياة المواطن أصبحت رهينة نزوات أفراد الشرطة ومصالحهم.

 

"وليد " ضحية "المجاملة الأمنية"

في منطقة شبرا الخيمة بالقليوبية، احتُجز الموظف "وليد أحمد طه" بعد مشاجرة مع أحد جيرانه، المشكلة لم تكن في الشجار بحد ذاته، بل في أن شقيق الجار أمين شرطة، ما دفع القسم إلى التدخل لصالحه، رفض وليد التنازل عن المحضر، فتم احتجازه عدة أيام داخل القسم للضغط عليه، لم يخرج وليد حيًّا؛ إذ أُبلغت أسرته بوفاته في ظروف غامضة، فيما رفض مأمور القسم -بحسب شهادات العائلة- تحرير محضر بالواقعة.

هذه القصة تعكس كيف تحولت الأقسام إلى أداة لتصفية الحسابات الشخصية لصالح رجال الشرطة، بدلًا من كونها مؤسسات لحماية القانون.

 

"حازم" حبسٌ بلا نهاية

في نجع حمادي، لقي الشاب حازم فتحي مصرعه بعد خمسة أشهر من الحبس الاحتياطي على خلفية مشاجرة مع أحد الضباط، كان من المفترض أن ينال محاكمة عادلة أو يُخلى سبيله لحين الفصل في القضية، لكن بدلاً من ذلك، ظل حبيسًا في ظروف سيئة حتى فارق الحياة.

وفاته لم تكن مجرد حادث فردي؛ بل شاهد إضافي على سياسة ممنهجة داخل مراكز الشرطة تعتمد على تحويل الحبس الاحتياطي إلى عقوبة بحد ذاته، حيث يبقى المواطن أسير القرارات الأمنية بلا ضمانات قضائية حقيقية.

 

أرقام صادمة.. الموت داخل الحجز

لا تقف الحكاية عند واقعتين؛ فبحسب رصد حقوقي مصري، سُجّلت 50 وفاة على الأقل داخل السجون وأماكن الاحتجاز خلال عام 2024 وحده، بين تعذيب وإهمال طبي وسوء ظروف احتجاز، واستمر النمط خلال 2025 مع وقائع متعددة وثّقتها مراكز حقوقية محلية.

تتفق هذه الأرقام مع اتجاهات وثّقتها تقارير أخرى خلال 2023 عن 17 وفاة في نصف عام، ومع خلاصات منظمات دولية كـ "هيومن رايتس ووتش" بشأن تدهور الأوضاع ومنع الرقابة المستقلة على السجون.

 

الإفلات من العقاب.. قاعدة لا استثناء

الأخطر من هذه الحوادث هو أن لا أحد يُحاسب. في معظم الحالات، تُغلق التحقيقات سريعًا أو تُقيّد ضد مجهول، بينما يتم الضغط على الأسر لالتزام الصمت أو قبول تعويضات رمزية.

هذا النمط المستمر يرسخ قناعة بأن الشرطة تعمل خارج أي رقابة حقيقية، وأن حياة المواطن المصري لا تساوي شيئًا أمام "هيبة الضابط" أو "مجاملة أمين الشرطة".

في واقعة "وليد طه" لماذا لم يُحرَّر محضر فوري بوقائع الاحتجاز والوفاة كما تقول الأسرة؟

وهل وُجد تصوير كاميرات يثبت ملابسات ما جرى داخل القسم؟

وفي حالة "حازم فتحي" ما نتائج الطب الشرعي المستقل؟

ما ظروف احتجازه ونقله؟

ولماذا استمر الحبس الاحتياطي خمسة أشهر لمتهم في مشاجرة، بينما الدستور يضمن كرامة المحتجزين وسلامتهم؟

مثل هذه الأسئلة، إن تُركت بلا إجابة، تعمّق فجوة الثقة وتُذكّر بسنوات 2010–2011 حين كان تراكم الشكاوى بلا تحقيقات مجدية مقدّمةً لانفجار اجتماعي.

 

دروس لم تُستوعب من عهد مبارك

تُعيد هذه الوقائع إلى الأذهان سنوات ما قبل ثورة يناير، حين كانت انتهاكات الشرطة أحد أهم دوافع الغضب الشعبي، قضية خالد سعيد عام 2010 كانت الشرارة التي فجّرت غضب الشارع ضد مبارك، اليوم، وبعد أكثر من عقد، تتكرر نفس الممارسات بل بدرجة أوسع، وسط سيطرة أمنية مطلقة وحصار سياسي وإعلامي، السؤال الذي يطرحه كثيرون: هل يكرر النظام الحالي أخطاء مبارك التي انتهت بانفجار شعبي واسع؟

ناشطون حقوقيون وسياسيون حذّروا مرارًا من أن استمرار الوفيات داخل أقسام الشرطة يعني أن النظام يزرع بذور أزمة مستقبلية، فالظلم المتكرر، والإهانة اليومية، والتسلط البوليسي يولد احتقانًا شعبيًا قد ينفجر في أي لحظة، التجارب التاريخية تثبت أن الشعوب قد تتحمل طويلًا، لكنها لا تنسى دماء أبنائها.

 

لماذا تتكرر الكارثة؟

هناك عدة أسباب رئيسية لتكرار هذه الحوادث:

  1. غياب المحاسبة: الضباط والأفراد يشعرون أن القانون لا يطالهم.
  2. تغوّل الأجهزة الأمنية: الشرطة صارت فوق كل مؤسسات الدولة.
  3. استخدام الأقسام كأداة للانتقام: سواء لخدمة مصالح شخصية أو لإرهاب المعارضين.
  4. ضعف الرقابة القضائية: النيابات كثيرًا ما تتساهل مع الداخلية ولا تفتح تحقيقات جادة.
  5. ثقافة الاستهانة بالمواطن: حيث يُنظر للمواطن للمصري على أنه متهم حتى يثبت العكس.

 

مصر على صفيح ساخن

حادثتا وليد أحمد طه وحازم فتحي تكشفان الوجه الحقيقي لما يعيشه المصريون اليوم، دولة بوليسية تحكمها العصا الأمنية، ومع استمرار هذا النمط من الإفلات من العقاب، وغياب أي إرادة سياسية للإصلاح، فإن الخطر يتجاوز حياة الضحايا إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي برمته.

التاريخ القريب يقول إن بطش الشرطة كان أحد أبرز أسباب سقوط نظام مبارك، واليوم، يُعيد السيسي إنتاج المشهد ذاته وربما بشكل أعمق وأكثر عنفًا، إنذار يتجاهله النظام، لكنه حاضر في وعي المصريين، دماء الأبرياء لا تضيع، والظلم لا يدوم.