في خطوة وُصفت بأنها "ابتزاز مقنن"، أعلنت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة يوم 17 أغسطس 2025 عن فرض رسوم قدرها 20 دولاراً للمتر الواحد على المشروعات العقارية المملوكة غالبيتها للأجانب في الساحل الشمالي، مع توحيد رسوم المطورين المحليين عند 1000 جنيه للمتر بدلاً من الشرائح السابقة (500 – 750 – 1000 جنيه).
وبحسب نص القرار، فإن حصيلة هذه الرسوم ستؤول مباشرة إلى صندوق "تحيا مصر" الذي يخضع لإشراف مباشر من قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، بعيداً عن الموازنة العامة للدولة.
هذا القرار، وإن بدا في ظاهره إجراءً تنظيمياً، إلا أنه يكشف عن سياسات مالية مرتبكة، ومحاولة السلطة الحاكمة البحث عن موارد عاجلة بأي ثمن، حتى لو كانت على حساب الاستقرار الاستثماري والقانوني.
القرارات السابقة والتراجع عن المعايير
حتى يوليو 2025، كانت الرسوم المفروضة على المطورين المحليين تختلف حسب موقع المشروع:
- 500 جنيه للمتر جنوب الطريق الساحلي.
- 750 جنيهاً للمتر شمال الطريق.
- 1000 جنيه للمتر للمشروعات ذات الواجهة الشاطئية.
لكن الهيئة، وفي ظرف أقل من شهر واحد، تراجعت عن هذا النظام، لتوحّد الرسوم على الجميع عند الحد الأعلى (1000 جنيه)، هذا التغيير المفاجئ يكشف حالة التخبط الإداري وعدم استقرار القوانين، وهو ما يعكس غياب استراتيجية اقتصادية واضحة.
صندوق "تحيا مصر": أداة مالية خارج الرقابة
الجدل الأكبر لم يكن فقط في قيمة الرسوم، بل في مصير الحصيلة المالية، إذ أن الأموال ستؤول إلى صندوق "تحيا مصر"، الذي أُنشئ بقرار من السيسي عام 2014، وظل بعيداً عن رقابة البرلمان والجهاز المركزي للمحاسبات.
ويرى مراقبون أن توجيه موارد سيادية إلى صندوق غير خاضع للرقابة يمثل تجريفاً لمبدأ الشفافية، ويثير تساؤلات حول أوجه إنفاق هذه الأموال، خاصة في ظل تراجع الخدمات العامة وتفاقم الديون.
النائب السابق محمد أنور السادات كان قد صرّح في 2017 بأن "صندوق تحيا مصر هو دولة موازية داخل الدولة، لا نعرف كيف تُدار أمواله ولا أين تُصرف"، وهو ما يتجدد اليوم بعد القرار الأخير.
استهداف المستثمرين الأجانب.. رسالة سلبية
فرض رسوم بالدولار على المشروعات المملوكة للأجانب يبعث برسالة سلبية للمستثمرين الدوليين. فبدلاً من تشجيع الاستثمار المباشر، يتم التعامل مع رؤوس الأموال الأجنبية وكأنها خزائن طوارئ لتمويل أزمات الدولة.
الأمر دفع خبراء اقتصاديين إلى التحذير من هروب الاستثمارات العقارية والسياحية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تدفقات نقدية بالعملة الصعبة، خاصة مع وصول الدين الخارجي إلى 170 مليار دولار منتصف 2025.
السياسي حمدين صباحي كان قد علّق على هذه السياسات قائلاً: "النظام الذي يبتز المستثمر لن يجلب تنمية، بل مزيداً من الخراب".
انهيار الثقة في المؤسسات
التغيرات المتلاحقة في القوانين والرسوم، دون إعلان دراسات جدوى أو خطط طويلة المدى، أدت إلى انهيار الثقة بين المواطنين والدولة، وبين المستثمرين والحكومة.
ففي تقرير لـ"المنتدى المصري للدراسات" صدر في يونيو 2025، أكد أن 78 % من المطورين العقاريين يرون أن قرارات الحكومة غير مستقرة، ما يعيق التخطيط لمشروعات طويلة الأجل.
وبينما تدّعي الحكومة أن هذه الرسوم تأتي لدعم التنمية، فإن الواقع يكشف أن الهدف هو توفير سيولة فورية لسد العجز المتنامي، دون أي التزام حقيقي بخطط إصلاحية.
الأمن مقابل الاقتصاد..
القرار الأخير ليس سوى انعكاس مباشر لـ عقلية إدارة الدولة تحت حكم السيسي، حيث تُدار البلاد بقرارات فوقية غير قابلة للنقاش، وسط تكميم للأفواه وقمع للمطالبات بالشفافية.
ويشير مراقبون إلى أن النظام يعتمد على القبضة الأمنية لمنع أي احتجاج ضد هذه السياسات، بينما يعيش ملايين المصريين ضغوطاً اقتصادية خانقة.
المحلل السياسي عمار علي حسن صرّح في مقابلة تلفزيونية في أبريل 2025 قائلاً: "النظام يعيش على فرض الجبايات من المواطنين والمستثمرين، بينما يغلق المجال العام أمام أي مساءلة، وهذه وصفة لانهيار حتمي".
إلى أين تتجه الدولة؟
مع استمرار فرض الرسوم الاستثنائية، وتحويل مواردها إلى كيانات غير خاضعة للرقابة، تتزايد المخاوف من تآكل ما تبقى من مؤسسات الدولة، فبدلاً من وجود سياسة مالية شفافة، هناك شبكة صناديق خاصة تتغذى على موارد عامة، دون عائد حقيقي على المجتمع.
المحصلة النهائية أن القرارات الاقتصادية، مثل قرار هيئة المجتمعات العمرانية، ليست سوى أداة في منظومة حكم تفتقر إلى الرؤية، وتعتمد على الجمع الإجباري للأموال، في ظل انهيار اقتصادي وديون متراكمة وغياب أي إصلاح سياسي.
فقرار فرض رسوم بالدولار على المشروعات الأجنبية وتوحيد رسوم المطورين المحليين عند 1000 جنيه للمتر، وتوجيه الحصيلة إلى صندوق "تحيا مصر"، ليس إلا حلقة جديدة في سلسلة الفشل الإداري والمالي لنظام السيسي.
فبين غياب الشفافية، وتراجع الثقة، وهروب الاستثمارات، يتضح أن الدولة تتجه نحو مزيد من الانهيار المؤسسي، حيث تحولت القوانين إلى أداة جباية، والصناديق الخاصة إلى ملاذ للمال العام بعيداً عن أعين الشعب.
إنها دولة السيسي.. دولة الضرائب الاستثنائية، والقرارات المفاجئة، وصندوق بلا رقابة.