اشتكى العديد من الأهالي وخاصة في المدن الكبرى وعلى أطراف التجمعات العمرانية الجديدة، من ظاهرة متكررة تتمثل في سير عربات النقل الثقيلة المحملة بالرمال والزلط ومواد التكسير دون الالتزام بالاشتراطات القانونية الخاصة بتأمين الحمولة أو تغطيتها.

ما يجري على الطرق المصرية اليوم ليس مجرد مخالفات فردية من سائقي شاحنات النقل الثقيلة، بل هو انعكاس مباشر لتقاعس أجهزة الدولة، وتواطؤها مع الفساد، وغياب الحد الأدنى من الحرص على أرواح المواطنين. عشرات الشاحنات المحملة بالرمال ومواد التكسير تسير يوميًا بلا تغطية لحمولتها، متناثرة بما تحمله في الطرق والشوارع، مسببة حوادث متكررة وخسائر بشرية ومادية، في حين تُترك بلا عقاب، فقط لأن معظمها يعمل لحساب الحكومة أو المقاولين التابعين لها. إن غياب المحاسبة هنا لا يمكن تفسيره إلا كوجه آخر لفساد ترعاه السلطة، حيث يُطبق القانون فقط على المواطن البسيط، بينما يظل الكبار في مأمن.

 

صورة من الإهمال اليومي

يكفي المرور على أي طريق رئيسي أو فرعي بجوار مواقع البناء أو المحاور الجديدة ليتأكد المرء من حجم الكارثة: شاحنات ضخمة تسير محملة عن آخرها دون أدنى التزام بالقواعد. الرمال تتساقط على الطريق مكوّنة طبقة خطيرة تعرّض السيارات الصغيرة للانزلاق. الأتربة تتطاير في الهواء، فتخنق المارة والسكان. الحصى المتناثر قد يفتك بإطارات السيارات أو يتسبب في حوادث فجائية. والأدهى أن هذه المشاهد تقع أمام أعين الكمائن الأمنية دون أن يحرك أحد ساكنًا، وكأن الأمر طبيعي ومباح.

هذه ليست مجرد عشوائية أو إهمال سائقين، بل هي إهمال ممنهج تحميه الدولة بصمتها، بل وبمشاركتها المباشرة، لأن أغلب هذه العربات تتبع مشاريع حكومية كبرى.

 

تهديد مباشر للأرواح

الظاهرة لا تقتصر على تشويه المظهر العام أو تعطيل المرور، بل هي تهديد مباشر لحياة الناس. الحوادث الناتجة عن انزلاق السيارات بسبب الرمال على الطرق تتكرر، لكن لا أحد يعلن عنها رسميًا. المواطنون البسطاء يفقدون أرواحهم أو سياراتهم في صمت، بينما الدولة التي يُفترض أن تحميهم تتفرج. والأخطر أن الشاحنات الحكومية تسير محمية بغطاء من الحصانة، بينما المواطن العادي قد تُسحب رخصته فورًا لو حمل شيئًا صغيرًا مكشوفًا.

 

فساد ورعاية رسمية للمخالفات

القوانين المصرية واضحة: أي شاحنة محملة بمواد بناء يجب أن تغطي حمولتها، وإلا تتعرض للغرامة وربما حجز المركبة. لكن الواقع يكشف الوجه الحقيقي: القانون مجرد ورقة تُرفع بوجه الضعفاء فقط، بينما تسقط كل مواده أمام أصحاب النفوذ. ما يجري هو فساد ممنهج؛ فالمشروعات الحكومية التي تستهلك مليارات الجنيهات من المال العام تعمل عبر مقاولين لا يلتزمون بالقانون، ويعرفون أنهم في مأمن من أي عقوبة. النتيجة أن الدولة هي من ترعى المخالفة وتحميها.

هذا الوضع يرسل رسالة صادمة للمجتمع: القانون ليس للجميع، بل هو أداة للضغط على المواطن العادي، بينما تُفتح أبواب الاستثناء لأهل المصالح. إنها صورة مصغرة لجوهر الفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة.

 

تدمير الطرق وهدر المال العام

من المفارقات أن الدولة التي تنفق مليارات على إنشاء وصيانة الطرق، هي نفسها التي تترك شاحناتها تدمر هذه الطرق يوميًا. الرمال والحصى المتساقط يسد مصارف الأمطار، يفسد طبقة الأسفلت، ويستدعي صيانة متكررة تكلف أموالًا جديدة. أي منطق هذا الذي يسمح بإهدار المال العام مرتين: مرة بترك المخالفة تحدث، ومرة بدفع تكاليف إصلاح نتائجها؟

 

انعكاسات على المجتمع

ما يجري يترك آثارًا عميقة على ثقة الناس في القانون. المواطن حين يرى عربات الحكومة ترتكب المخالفات جهارًا نهارًا، بينما يُحاسب هو على أبسط الأخطاء، يفهم جيدًا أن العدالة ليست سوى شعار. هذا الشعور بالظلم يقوّض احترام القانون في النفوس، ويفتح الباب لعقلية "إذا كان الكبار يفعلون، فلماذا لا نفعل نحن؟". وهكذا يصبح الإهمال والفساد عدوى تنتشر من أعلى إلى أسفل.

 

المسؤولية السياسية والأخلاقية

لا يمكن تبرئة الحكومة من المسؤولية. فهي الجهة الأولى المسؤولة عن حفظ الأرواح وحماية الطرق. وهي صاحبة المشروعات التي تستخدم هذه الشاحنات، وهي من يفترض أن يراقب ويفرض العقوبات. لكن تقاعسها الواضح عن ذلك يجعلها شريكًا أساسيًا في الكارثة. كل حادث ناتج عن رمال متساقطة أو حمولة غير مؤمنة هو جريمة تُضاف إلى سجل الفساد والإهمال الذي ترعاه السلطة.

وأخيرا فإن ظاهرة عربات النقل المكشوفة ليست خطأ فرديًا ولا مجرد تقصير إداري، بل هي انعكاس مباشر لإرادة سياسية تتساهل مع الفساد وتعتبر المواطن آخر أولوياتها، كما أن استمرارها يعني أن الدولة لا تحمي أرواح الناس، بل تهدرها، ولا تصون المال العام، بل تبدده، ولا تطبق القانون، بل توظفه لخدمة مصالحها.