في تصريح أثار جدلًا واسعًا، قال رئيس وزراء السيسي، الدكتور مصطفى مدبولي إن الأراضي المطلة على النيل "قيمتها عشرات المليارات" وإن معظمها غير مستغل، حيث تستخدم كجراجات أو مخازن. للوهلة الأولى، قد يبدو الكلام منطقيًا من حيث الرغبة في تعظيم الاستفادة من الموارد، لكن خلف السطور تظهر ملامح خطة قديمة جديدة: وضع اليد على الأراضي المميزة التي يمتلكها مواطنون أو هيئات عامة، ثم بيعها لمستثمرين، غالبًا أجانب أو مقربين من دوائر الحكم، بأسعار مرتفعة بالدولار، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب من أزمة اقتصادية خانقة، وباتت أحلامه مقتصرة على لقمة العيش.
هذا النوع من التصريحات ليس مجرد توصيف لواقع، بل عادة ما يكون جس نبض للرأي العام، وتمهيدًا لقرارات تنفيذية تحمل اسم "التطوير" أو "إعادة التخطيط"، لكنها عمليًا تعني نزع الملكية وإخراج المواطنين من أماكنهم، تمامًا كما حدث سابقًا في مثلث ماسبيرو، وجزيرة الوراق، وأحياء شعبية على كورنيش النيل في محافظات أخرى.
الحكومة و"الحل الأسهل"
بدلًا من إطلاق مشاريع إنتاجية حقيقية توفر فرص عمل وتعيد تدوير عجلة الاقتصاد، يبدو أن حكومة السيسي تجد في بيع الأصول والأراضي أسلوبًا أسرع لجلب العملة الصعبة، ولو على حساب المواطنين.
في حالة الأراضي المطلة على النيل، فإنها تمثل شريان حياة حضاري وسياحي لأي مدينة، وهي أصول استراتيجية نادرة لا تتكرر. لكن الحكومة تتعامل معها كما لو كانت عبئًا، بينما هي في الحقيقة كنز وطني.
التجارب السابقة: من ماسبيرو إلى الوراق
من يتابع سياسات الدولة خلال السنوات الماضية، يدرك أن ما قاله مدبولي ليس جديدًا، بل هو نسخة مكررة من خطط تم تنفيذها بالفعل:
- مثلث ماسبيرو: منطقة تاريخية على النيل جرى "تطويرها" بطرد آلاف الأسر وتعويضهم بمبالغ زهيدة أو نقلهم لمناطق نائية، بينما أُعيد بيع الأرض لمستثمرين وشركات عقارية كبرى.
- جزيرة الوراق: محاولة مستمرة لنزع أراضي الأهالي بحجة "التطوير" وتحويلها إلى مشروع استثماري فاخر.
- مناطق شعبية على كورنيش المعادي وحلوان: إزالات متسارعة تحت شعار "إزالة التعديات"، لكن الوجهة النهائية غالبًا مشاريع فندقية أو سياحية.
هذه الأمثلة تكشف نمطًا متكررًا: الحكومة تبدأ بخطاب عن "عدم استغلال" الأرض، ثم تصدر قرارات نزع ملكية، وأخيرًا تنتهي الأمور بمشروعات لا يقدر المواطن العادي على دخولها إلا زائرًا —إن سُمح له أصلًا.
من جراجات ومخازن إلى أبراج وفنادق
تصريح مدبولي بأن الأراضي "معظمها جراجات أو مخازن" يهدف إلى خلق صورة ذهنية سلبية عن الوضع الحالي، كأن هذه الأراضي مهملة أو بلا قيمة. لكن السؤال: من يملك تلك الجراجات والمخازن؟ في كثير من الحالات، هي ممتلكات خاصة لمواطنين أو شركات صغيرة، أو حتى جهات حكومية محلية.
عند تحويل هذه الأراضي إلى مشروعات استثمارية، هل سيتم تعويض الملاك تعويضًا عادلًا؟ أم سيتم الاستيلاء عليها بحجة المصلحة العامة ثم بيعها بمليارات الجنيهات لصالح كبار المستثمرين؟ التجربة تقول إن السيناريو الثاني هو الأرجح.
الدولار… البطل الحقيقي للقصة
الأزمة الاقتصادية الحالية، وتحديدًا شُح الدولار، جعلت الحكومة تبحث عن أي مصدر للعملة الصعبة. وأراضي النيل، بأسعارها المغرية للمستثمرين الأجانب والخليجيين، تمثل فرصة ذهبية.
لكن هذه "الفرصة" ليست إلا بيع أصول الوطن، وخسارة أجيال قادمة لموارد لا يمكن تعويضها. هنا يصبح "التطوير" مجرد واجهة لعملية تصفية ممتلكات عامة وخاصة.
ماذا عن المواطن الفقير؟
عندما تتحول الأراضي المطلة على النيل إلى مشروعات سياحية وفنادق، فإن المواطن البسيط الذي كان يتمشى على الكورنيش أو يعمل في تلك المناطق يفقد مساحة من حياته وفرص عمله.
الأسعار التي يحددها السوق العقاري الفاخر تجعل أي سكن أو نشاط تجاري شعبي مستحيلًا في تلك المناطق. النتيجة: مزيد من الإقصاء المكاني والاجتماعي، وفصل طبقي حاد بين القادرين وغير القادرين.
غياب الرؤية التنموية
الحكومات الرشيدة ترى في النيل فرصة لمشاريع تخدم الجميع:
- حدائق عامة مفتوحة.
- ممشى سياحي مجاني.
- مشروعات ترفيهية وثقافية بأسعار مناسبة.
لكن في ظل السياسات الحالية، لا مكان لمثل هذه الأفكار. الرؤية الوحيدة التي تتكرر هي البيع والخصخصة، دون أي تصور لإعادة استثمار العوائد في مشاريع إنتاجية أو خدمات عامة.
الإطار القانوني… غطاء للمصادرة
عندما يُطرح ملف مثل هذا، تبدأ التعديلات القانونية والتنظيمية التي تمنح الدولة حق "إعادة التخطيط" أو "التطوير" أو "إزالة التعديات"، وهي عبارات مطاطة يمكن استخدامها لتبرير أي إجراء، بما فيه نزع الملكية أو الإخلاء القسري.
في النهاية، المواطن العادي يواجه آلة قانونية وإدارية ضخمة، لا تترك له مجالًا للطعن أو الدفاع عن ممتلكاته، خاصة إذا كان الطرف المستفيد مستثمرًا مدعومًا من أعلى المستويات.
وفي الختام فإن تصريح مصطفى مدبولي ليس مجرد رأي عابر، بل هو مؤشر على ما قد يكون الموجة القادمة من بيع أصول البلاد تحت شعار التطوير. الأرض التي يراها الشعب كنزًا وحقًا للأجيال، تراها الحكومة فرصة للبيع السريع.
في ظل غياب رؤية اقتصادية حقيقية، تظل السياسات المعتمدة على بيع الأراضي أشبه بمن يبيع أثاث منزله ليشتري وجبة غداء… حل قصير المدى، لكنه يقود في النهاية إلى الإفلاس الكامل.
كما إن الدفاع عن الأراضي المطلة على النيل ليس مسألة جغرافية أو عقارية فقط، بل هو دفاع عن الحق العام، وعن هوية المدن المصرية، وعن حق المواطن البسيط في أن يكون شريكًا في ثروات بلاده، لا مجرد متفرج يرى كنوز وطنه تُباع قطعة قطعة.