تعيش مصر منذ سنوات تحت قبضة هيمنة عسكرية متزايدة على مقدرات الاقتصاد الوطني، في وقت تتسع فيه الفجوة بين المواطنين البسطاء الباحثين عن لقمة العيش، وبين مؤسسات الدولة التي يفترض أن تحافظ على المال العام.
صفقة استحواذ جهاز مستقبل مصر التابع للقوات المسلحة على "الشركة العربية لاستصلاح الأراضي" بسعر بخس لا يتجاوز 5 جنيهات للسهم بينما قيمته السوقية في البورصة تتخطى 128 جنيهاً،.

هذه الصفقة ليست مجرد واقعة مالية عابرة، بل تجسيد حي لسياسات منهجية تهدف إلى تحويل مؤسسات الدولة إلى ملكية شبه خاصة للمؤسسة العسكرية.
هذه الممارسات لا تقتصر على الفساد المالي فحسب، بل تمثل تهديداً مباشراً لهيكل الاقتصاد المصري، إذ يتم إقصاء القطاع المدني، وتُدار الشركات بأسلوب لا يقوم على المنافسة أو الكفاءة، بل على السلطة والنفوذ.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها المواطن المصري من تضخم وبطالة وارتفاع أسعار، يصبح التفريط في أصول استراتيجية كهذه جريمة مضاعفة، تفضح انعدام الشفافية وغياب المساءلة، وتكشف كيف تحولت الدولة من حارس على المال العام إلى بائع متواطئ يتنازل عن مقدراتها لصالح نخبة ضيقة مرتبطة بالعسكر
 

تفاصيل الصفقة وتقييمها المالي
تم تنفيذ الصفقة من خلال شركة أي إف جي هيرميس، حيث تم نقل ملكية 4.7 مليون سهم من الشركة القابضة لاستصلاح الأراضي إلى جهاز مستقبل مصر بسعر 5 جنيهات للسهم، وبقيمة إجمالية 23.3 مليون جنيه. في حين أن القيمة السوقية للسهم تتراوح بين 128 و153 جنيهًا، مما يشير إلى بيع الأسهم بأقل من قيمتها السوقية بنسبة تصل إلى 95%.

ومن جهته وصف الدكتور مصطفى عبد السلام، الخبير الاقتصادي هذه الصفقة: " تمثل إهدارًا للمال العام، وتثير علامات استفهام حول الشفافية في إدارة الأصول الحكومية."
 

غياب الشفافية والمحاسبة
كما ُثير هذه الصفقة تساؤلات حول غياب الشفافية والمحاسبة في إدارة الشركات الحكومية. فقد تم تنفيذ الصفقة دون إعلان مسبق أو تقييم مستقل، مما يفتح الباب أمام احتمالات الفساد واستغلال النفوذ.

وهذا ما أكد عليه الخبير الاقتصادي ممدوح الولي قائلا إأن "غياب الشفافية في مثل هذه الصفقات يُضعف الثقة في المؤسسات الحكومية ويُزيد من المخاوف بشأن الفساد."
 

تداعيات الصفقة على الاقتصاد الوطني
تُعتبر هذه الصفقة جزءًا من سلسلة من عمليات الخصخصة والتنازل عن الأصول العامة، مما يُضعف الاقتصاد الوطني ويزيد من هيمنة القطاع العسكري على مفاصل الدولة.
هذا التوجه يُقلل من فرص القطاع الخاص المدني في المنافسة ويُزيد من التحديات الاقتصادية.

وهذا ما يشير اليه الدكتور أحمد جلال، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، إلى أن "استحواذ الجيش على شركات مدنية يُقلل من كفاءة الاقتصاد ويُزيد من التحديات أمام القطاع الخاص."
 

دعوات للمحاسبة وإصلاح السياسات
تُطالب منظمات المجتمع المدني والخبراء الاقتصاديون بضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الصفقة، وإجراء تحقيقات شفافة لتحديد مدى قانونيتها وأهدافها.
كما يُشدد على أهمية إصلاح السياسات الاقتصادية لضمان حماية المال العام وتعزيز دور القطاع الخاص المدني.

ويُؤكد الدكتور محمد معيط، وزير المالية السابق، أن "إصلاح السياسات الاقتصادية يتطلب تعزيز الشفافية والمحاسبة، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية."

وأخيرا فإن فضيحة بيع "الشركة العربية لاستصلاح الأراضي" لجهاز مستقبل مصر العسكري تمثل إنذاراً خطيراً لما آلت إليه أوضاع الاقتصاد الوطني تحت هيمنة العسكر.
فالتفريط في شركة مدرجة بالبورصة بهذا الفارق الهائل بين القيمة الدفترية وسعر البيع ليس مجرد خطأ إداري، بل هو إهدار متعمد للمال العام وإضعاف لمفهوم السوق الحر، ورسالة واضحة بأن الدولة لا ترى في المواطنين شركاء في الاقتصاد، بل مجرد متفرجين على صفقات مغلقة تحكمها المصالح الخاصة.

كما أن استمرار هذه السياسة يعني تآكل ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، وانكماش دور القطاع الخاص، وتعميق أزمات الفقر والبطالة والتضخم التي تضرب المجتمع.
لقد حان الوقت لفتح تحقيقات شفافة ومحاسبة كل من تورط في هذه الجريمة الاقتصادية، لأن الصمت عنها يفتح الباب لمزيد من الاستحواذات التي تفرغ الاقتصاد من روحه المدنية وتجعله مجرد أداة في يد المؤسسة العسكرية.
إن إنقاذ الاقتصاد المصري لن يكون إلا بإنهاء هذه السياسات الاحتكارية، واستعادة دور الدولة الحقيقي كحامٍ للمال العام لا كبائع متواطئ.