لم يعد انهيار الجنيه مجرد خبر اقتصادي عابر أو أرقام تتداولها شاشات البنوك، بل صار واقعًايوميًا يثقل كاهل ملايين المصريين.
يومان فقط كانا كافيين لفقدان العملة المحلية نحو 26 قرشًا إضافيًا أمام الدولار، ليصل الأخير إلى 48.56 جنيهًا للشراء و48.66 جنيهًاللبيع.
أرقام قاسية تترجم مباشرة في أسعار الخبز والزيت والسكر ووسائل المواصلات، وتكشف عن تأخر حكومي واضح في مواجهة الأزمة وضبط الأسواق.
فمنذ مارس 2022، حين فقد الجنيه أكثر من نصف قيمته، يعيش المصريون دوامة لا تنتهي من الغلاء والتضخم ووعود رسمية لم تتحقق.
وبينما تواصل الحكومة الترويج لاتفاقات تمويلية خارجية ومشروعات كبرى، يبقى المواطن البسيط وحده من يدفع الثمن يومًا بعد آخر.
 

الدولار بين السوق الرسمية والواقع
على الرغم من محاولات الحكومة ضبط سوق الصرف عبر تحركات البنك المركزي، إلا أن الدولار يواصل الارتفاع بوتيرة تكشف عن الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الواقعي.

الخبير الاقتصادي زيد داوود أكد أن «الدولار لا يزال بعيدًا عن قيمته الحقيقية في السوق، وأي تأخير فيالإصلاحات الهيكلية يجعل الضغوط على الجنيه دائمة».

ويشير محللون إلى أن غياب سياسات إنتاجية جادة يعزز الاعتماد على الدولار في الاستيراد، ما يزيد الطلب عليه ويرفع سعره باستمرار.
 

الدولار والوعود الحكومية
رغم تطمينات الحكومة بأن الدولار سيشهد استقرارًا نسبيًا مع تدفق القروض والودائع الخليجية،إلا أن الأسواق لا تعكس هذا التفاؤل.
تقارير صادرة عن بي إن بي باريبا توضح أن دعم الدولار عبر الأموال الخارجية لا يمثل حلاً دائمًا، فالمخاطر قائمة بمجرد تراجع الدعمأو تأخره.
الخبير المالي محمد السيد يرى أن «الدولار سيبقى في صعود ما لم يتم تقليص الاعتماد على الخارج، وإذا استمر استنزاف الموارد في الاستيراد دون تحفيز الصناعة المحليةفإن موجات ارتفاعه لن تتوقف».
 

الدولار والدين العام
وراء كل قفزة للدولار يقف جبل من الديون الخارجية التي تثقل كاهل الدولة. فمعظم القروض الجديدة موجهة لضبط السيولة وتوفير العملة الصعبة بدلًا من استثمارها في تقليل الحاجة إلى الدولار

عبر الإنتاج المحلي. المحلل في مركز كارنيغي هاشم سلامة يصف المشهد بقوله: «كل دولارجديد يأتي عبر القروض يقابله نزيف أكبر في احتياجات الاستيراد، والمواطن هو من يدفع فاتورة هذا الدوران بلا جدوى».
وبذلك يبقى الدولار سلاحًا يضغط على الحكومة والمجتمع في آن واحد.
 

الدولار والمواطن
انعكاسات صعود الدولار على حياة المصريين أكثر وضوحًا من أي تقرير رسمي؛ فكل زيادة في سعره تعنيارتفاع أسعار الأرز والزيت والسكر والوقود.

صحيفة لوموند الفرنسية رصدت ارتفاع أسعار السلع الأساسية بنسبة 36% خلال رمضان 2024 وحده، وهو ما ربطته مباشرة بارتفاع الدولاروتراجع الجنيه.

الخبيرة الاجتماعية هالة فهمي علقت قائلة: «كل قفزة للدولار تعني قفزة في معدلات الفقر، فالحكومة تكتفي بالدعم الجزئي بينما لا تقدم سياسات تحمي المستهلك من جنون الأسعار».

الدولار لم يعد مجرد عملة أجنبية في مصر، بل أصبح مرآة تعكس فشل السياسات الاقتصادية وعجز الحكومة عن ضبط الأسواق. فمع كل ارتفاع جديد، يزداد التضخم ويتراجع مستوى المعيشة، بينما تكتفي السلطة بتصريحات ووعود لا توقف النزيف.
إذا لم تتجه الدولة إلى سياسات تقلل الاعتماد على الدولار عبر الإنتاج والتصدير، فإن المواطن سيظل يفيق كل صباح على واقع جديد: دولار أقوى، وجنيه أضعف، وحياة أغلى.
 

وأخيرا فخسارة الجنيه 26 قرشًا في يومين ليست مجرد هزة عابرة، بل جرس إنذار جديد يضاف إلى سلسلة طويلة من الفشل في إدارة الاقتصاد.
وبينما تتباهى الحكومة بالاتفاقات الدولية والمشروعات العملاقة، لا يلمس المواطن أي تحسن في قوته الشرائية أو في قدرته على مواجهة الغلاء.

إن المطلوب اليوم ليس بيانات مطمئنة ولا وعودًا مؤجلة، بل إصلاحات حقيقية تركزعلى الإنتاج وتشجيع الاستثمار المحلي، وتضع أولوية لحماية الفقراء والطبقة الوسطى.

وإلا فإن مسلسل الانهيار سيبقى مستمرًا، والمواطن سيظل وحده يدفع الفاتورة.