في مشهد أثار استغراب المتابعين، خرج وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ليعلن عن مشروع لإنشاء "مركز عالمي لتخزين وتوريد الحبوب" بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي، بهدف ضمان الأمن الغذائي وتعزيز سلاسل الإمداد في الشرق الأوسط في ظل أزمة المناخ.
السؤال البديهي: ما علاقة وزير الخارجية بمثل هذه الملفات الاقتصادية المعقدة، التي ترتبط بالصناعة والتجارة والزراعة أكثر من ارتباطها بالدبلوماسية؟ وهل الأمر مجرد توسع في صلاحيات الوزارة، أم أن هناك ترتيبات سياسية أعمق تتعلق بمستقبل وزراء آخرين مثل كامل الوزير؟
ملف الحبوب… لماذا وزارة الخارجية؟
عادة ما يُفترض أن يكون ملف الأمن الغذائي تحت إشراف وزارات مثل الزراعة أو التموين أو التجارة والصناعة. لكن دخول وزير الخارجية على الخط يطرح عدة تفسيرات:
دور مصر الإقليمي: ربما تريد القاهرة أن تظهر باعتبارها مركزًا إقليميًا لتخزين وتوزيع الحبوب، وبالتالي يتطلب الأمر غطاءً دبلوماسيًا للتعامل مع المنظمات الدولية والدول المصدرة.
غياب التنسيق الداخلي: من المعتاد أن الوزارات في مصر تتداخل أدوارها، لكن الملفت أن الإعلان جاء على لسان وزير الخارجية لا رئيس الوزراء أو وزير التموين، ما يعكس إما ضعفًا في أداء الوزارات المختصة، أو رغبة في منح الخارجية مساحة أكبر على حسابهم.
استعراض إعلامي: من الممكن أن يكون الهدف تسويق صورة وزير الخارجية الجديد كرجل ملفات شاملة، ليس فقط معنيًا بالسياسة الخارجية، بل أيضًا بملفات اقتصادية كبرى.
قراءة أوسع: فوضى الاختصاصات أم مركزية السلطة؟
التناقض في حديث وزير الخارجية عن مشروع يخص الأمن الغذائي يعكس مشكلة بنيوية في إدارة الدولة المصرية:
الوزارات لا تعمل وفق آليات واضحة أو فصل اختصاصات، بل تتحرك تبعًا لما يراه الرئيس أو الدائرة الضيقة حوله.
الملفات الكبرى مثل الأمن الغذائي أو الطاقة أو النقل لم تعد حكرًا على الوزارات المختصة، بل تُدار من خلال مركزية مفرطة تجعل أي وزير يطل في أي ملف طالما أُعطي الضوء الأخضر.
هذه المركزية قد تُظهر مصر أمام الخارج كدولة "منسقة"، لكنها داخليًا تكشف عن فوضى في صنع القرار، وغياب محاسبة فعلية لأي جهة مسؤولة.
الأمن الغذائي بين السياسة والاقتصاد
لا يمكن إنكار أن ملف الحبوب حيوي جدًا في ظل أزمات المناخ وتعطل سلاسل التوريد العالمية. مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وأي خلل في الإمدادات يهدد استقرارها السياسي والاجتماعي. لكن ربط الملف بالدبلوماسية فقط يثير القلق:
إذا كان الهدف هو "تخزين الحبوب وتوريدها" على المستوى الإقليمي، فهذا يعني أن مصر تعرض نفسها كوسيط أو مركز لوجستي، وهو مشروع طموح لكنه يتطلب بنية تحتية واستثمارات ضخمة لم يُعلن عنها بعد.
الخشية أن يكون الإعلان مجرد بالون اختبار أو "شعار إعلامي" يُضاف إلى قائمة المشاريع الكبرى التي تُطرح للاستهلاك دون متابعة جادة.
وفي النهاية فخروج وزير الخارجية المصري ليتحدث عن إنشاء مركز عالمي لتخزين الحبوب يكشف الكثير عن طبيعة الحكم في مصر: تداخل في الصلاحيات، غياب للمحاسبة، وخلط متعمد بين الملفات الاقتصادية والدبلوماسية. قد يكون الهدف تلميع بدر عبد العاطي وإظهاره كوزير شامل، أو تمهيدًا لتحركات تخص كامل الوزير، سواء بإبعاده أو تجهيزه لموقع أكبر. لكن الأكيد أن المواطن المصري، الذي يدفع ثمن أزمات الخبز والغذاء يوميًا، لا تهمه هذه المناورات بقدر ما يهمه وجود سياسة واضحة وشفافة لإدارة ملف الأمن الغذائي. وحتى الآن، ما نراه لا يتجاوز حدود الشو السياسي وتبادل الأدوار بين وزراء لا يملكون القرار الحقيقي، بل ينفذون ما يُملى عليهم من فوق.