في تطور صادم وغير مسبوق، أصدرت مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان تقريرًا بعنوان "قتلوا بدم بارد"، يوثق وجود مقبرة جماعية في شمال سيناء أشرفت قوات الجيش المصري على إنشائها وإخفائها لسنوات طويلة. التقرير، الذي أُنجز بالتعاون مع منظمة Forensic Architecture البريطانية، يقدّم أدلة دامغة على عمليات قتل خارج نطاق القانون بحق مدنيين جرى دفنهم سرًا، في واحدة من أخطر القضايا الحقوقية التي تواجه الدولة المصرية في العقد الأخير.

 

كشف المقبرة: أدلة بصرية وتحقيقات ميدانية

وثّق فريق مؤسسة سيناء، بالاعتماد على صور أقمار صناعية وتحليلات ثلاثية الأبعاد، وجود موقع دفنت فيه بقايا مئات الأشخاص جنوب مدينة العريش. وقد تمكّن الباحثون من جمع صور ومقاطع فيديو وشهادات مباشرة تؤكد أن عمليات الدفن جرت على مراحل متفرقة بين 2013 و2022، أي خلال سنوات الحرب بين الجيش المصري وتنظيم ولاية سيناء. وأكدت المنظمة أن ما لا يقل عن 300 جثة دُفنت بطريقة سطحية وغير لائقة، الأمر الذي أدى إلى ظهور رفات بشرية على سطح الأرض بفعل العوامل الطبيعية.

 

شهادات صادمة من عناصر مسلحة

التقرير استند أيضًا إلى روايات اثنين من عناصر الميليشيات الموالية للجيش، اللذين أقرّا بالمشاركة في نقل المعتقلين إلى موقع المقبرة، وإن أنكرا تنفيذ القتل بأنفسهم. أحدهما قال إنه كان يحقق مع معتقلين في معسكر الزهور والكتيبة 101، وإن توصيف المعتقل بأنه "تكفيري" أو "مساعد لداعش" كان كافيًا للحكم عليه بالموت. هذه الشهادات تبرز بوضوح أن كثيرًا من الضحايا لم يكونوا مسلحين، بل مجرد أشخاص اشتُبه فيهم، ما يجعل الجريمة أقرب إلى إعدامات ميدانية ممنهجة.

 

أدلة على جرائم حرب وانتهاكات جسيمة

أكد التقرير أن هذه الوقائع ترقى إلى جرائم حرب بموجب اتفاقيات جنيف، نظرًا لأنها وقعت في سياق نزاع مسلح غير دولي واستهدفت مدنيين خارج القتال. كما أشار إلى احتمال اعتبارها جرائم ضد الإنسانية إذا ثبت أنها نُفذت كجزء من سياسة دولة ممنهجة. مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان طالبت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة، مؤكدة أن غياب المساءلة الداخلية يفرض الحاجة إلى تدخل دولي عاجل.

 

المعاناة الإنسانية للأهالي والمختفين

المأساة لم تقتصر على القتل والدفن السري، بل طالت عائلات الضحايا التي تعيش منذ سنوات في انتظار معرفة مصير أبنائها. أحد الشهود قال إن جيرانه من عشرات العائلات يبحثون منذ سبع أو عشر سنوات عن ذويهم دون جدوى، وهو على يقين بأنهم صُفّوا في هذه المقابر. التقرير أبرز كذلك قصصًا لعائلات فقدت أطفالًا وشبابًا في إعدامات ميدانية، مؤكدًا أن المعاناة الإنسانية المتوارثة ستظل جرحًا مفتوحًا ما لم تتحقق العدالة.

 

دعوات للمحاسبة ووقف الدعم العسكري

خلص التقرير إلى ضرورة إجراء تحقيق دولي مستقل يكشف ملابسات المقبرة ويحدد المسؤوليات الجنائية. كما دعا إلى الإفراج عن جميع المعتقلين الذين لا تتوافر ضدهم أدلة مادية، والكشف عن مصير آلاف المختفين قسريًا. وشددت المؤسسة على أن استمرار تصدير السلاح والمساعدات العسكرية لمصر يشجع على المزيد من الانتهاكات، وطالبت الدول الداعمة بوقف هذا الدعم حتى تتحقق العدالة والمساءلة. وأكد المدير التنفيذي للمؤسسة أحمد سالم أن "الجرائم التي ارتُكبت بحق السيناويين لا يمكن أن تُبنى عليها عدالة أو أمن حقيقي، وإنما الحقيقة والإنصاف وحدهما كفيلان بإعادة السلام للمجتمع".

وختاما يكشف تقرير "قتلوا بدم بارد" عن جانب مظلم من الحرب في شمال سيناء ظل طي الكتمان لسنوات. فالمقبرة الجماعية ليست مجرد جريمة دفن سرية، بل دليل حي على انتهاكات جسيمة ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومع استمرار الصمت الرسمي وغياب المحاسبة، يبقى الأمل معقودًا على تحرك دولي جاد يضمن العدالة لضحايا سيناء، ويعيد إلى ذويهم الحق في الحقيقة والإنصاف.