في الوقت الذي يعيش فيه المواطن المصري أزمات متلاحقة في الكهرباء والغاز وأسعار الوقود، تواصل حكومة الانقلاب الإعلان عن “إنجازات” في مشروع محطة الضبعة النووية، الذي تقول إنها أتمت نحو 33% من أعماله، وتستهدف رفع النسبة إلى 42% مع نهاية العام. الحكومة تروج لهذا المشروع باعتباره طموحاً تاريخياً لتأمين احتياجات البلاد من الكهرباء وتنويع مصادر الطاقة، لكن خلف هذه العناوين اللامعة تكمن تساؤلات خطيرة: لماذا تُسرع مصر الخطى نحو مشروع نووي بهذا الحجم، رغم افتقارها إلى الخبرات، وأضرار هذا المشروع الاقتصادية والبيئية المحتملة؟
كلفة مرهقة وقرض يثقل الأجيال
تبلغ تكلفة مشروع الضبعة نحو 28.5 مليار دولار، منها 25 مليار دولار قرض روسي طويل الأجل بفائدة تراكمية، يسدد خلال 22 عاماً. أي أن مصر ستظل أسيرة ديون ضخمة لعقود، في وقت تعاني فيه الموازنة من عجز تاريخي وتلتهم خدمة الديون أكثر من نصف الإنفاق العام. بينما يتفاخر النظام بجلب التمويل، يغيب السؤال الأهم: من سيدفع الثمن؟ الإجابة واضحة؛ المواطن المصري الذي يواجه بالفعل موجات لا تنتهي من الغلاء ورفع الدعم وفرض الضرائب.
غياب الخبرات المحلية.. واعتماد كامل على روسيا
المشروع تنفذه شركة "روساتوم" الروسية، وهي من أكبر شركات الطاقة النووية في العالم. لكن الخطورة تكمن في أن مصر لا تمتلك الخبرات الفنية أو الكوادر المدربة لإدارة محطة بهذا الحجم أو التعامل مع مخاطرها. سيظل التشغيل والصيانة وتوريد الوقود النووي في يد روسيا لعقود، ما يجعل مصر رهينة قرار سياسي خارجي. أي تعثر في العلاقة مع موسكو أو تغير في موازين القوى الدولية قد يهدد أمن الطاقة المصري بالكامل.
أضرار بيئية وصحية جسيمة
المفاعلات النووية، حتى لو كانت من الجيل الثالث (3+)، ليست خالية من المخاطر. أي تسرب إشعاعي، حتى ولو محدود، يمكن أن يسبب كارثة تمتد آثارها لعشرات السنين وتلوث التربة والمياه الجوفية والسواحل القريبة. محطة الضبعة تقع على الساحل الشمالي الغربي، وهو من أهم الشواطئ السياحية والبيئية في مصر، ما يجعل المخاطر مضاعفة. بالإضافة إلى ذلك، يظل السؤال مطروحاً: كيف ستتعامل مصر مع النفايات النووية الخطيرة التي تحتاج إلى تقنيات عالية ومواقع تخزين آمنة لعشرات الآلاف من السنين؟ الحكومة لم تقدم إجابة شفافة حتى الآن.
تناقض مع الواقع الطاقوي
بينما تلهث الحكومة لبناء محطة نووية بتكلفة عشرات المليارات، تعاني البلاد من عجز في إمدادات الغاز الطبيعي، وتستورد بالفعل شحنات غاز مسال بمليارات الدولارات. وكان الأولى، بحسب خبراء الطاقة، أن توجه هذه الاستثمارات نحو تطوير الطاقات المتجددة مثل الشمسية والرياح، التي تمتلك مصر فيها إمكانات هائلة وتكاليفها أقل بكثير ومخاطرها محدودة. لكن يبدو أن النظام يفضل المشاريع الضخمة ذات الطابع الدعائي، حتى لو كانت عبئاً على الاقتصاد.
سباق سياسي لا علمي
المثير أن الحكومة تحدد عام 2029 موعداً لتشغيل الوحدة الأولى من المحطة، في حين تؤكد بيانات رسمية أن العمر الافتراضي للمشروع 60 عاماً. هذا الإصرار على الإسراع بالتنفيذ لا يبدو نابعا من حاجة علمية أو طاقوية عاجلة، بل من رغبة سياسية في تسجيل “إنجاز” يضاف لسجل النظام أمام الداخل والخارج، بغض النظر عن جدواه الحقيقية أو تكلفته الباهظة على الأجيال المقبلة.
الدعم الدولي.. غطاء للاستهلاك الإعلامي
يشير وزير الكهرباء محمود عصمت إلى أن “البنك الدولي” رفع الحظر عن دعم الطاقة النووية، في خطوة يرى النظام أنها دعم لمشروع الضبعة. لكن الحقيقة أن هذا القرار عالمي ويشمل جميع الدول، ولا يعني بالضرورة أن المشروع المصري يحظى بتمويل مباشر. النظام يستغل هذه الأخبار لتلميع صورته والترويج لمشروع محفوف بالمخاطر باعتباره جزءاً من "التوجه العالمي نحو الطاقة النظيفة".
الخلاصة أن محطة الضبعة النووية ليست مجرد مشروع طاقة، بل ورطة استراتيجية تحمل أعباء اقتصادية وبيئية وسياسية ضخمة. الحكومة تسابق الزمن لإتمامه رغم غياب الكفاءات الوطنية، والاعتماد الكامل على روسيا، وتجاهل بدائل الطاقة المتجددة الأقل تكلفة والأكثر أماناً. في النهاية، سيدفع المواطن المصري الثمن، سواء عبر ديون تُسدد من قوت يومه أو عبر مخاطر بيئية قد تهدد الأجيال القادمة. السؤال الأهم: هل هذا المشروع لتأمين مستقبل الطاقة، أم لتأمين بقاء نظام سياسي يحتاج إلى إنجازات دعائية بأي ثمن؟