تواجه حكومة الانقلاب واحدة من أخطر الإشارات الاقتصادية منذ سنوات، بعدما وضعت مؤسسة FTSE Russell السوق المصرية رسميًا على “قائمة المراقبة” تمهيدًا لاحتمال خفض تصنيفها من سوق ناشئة ثانوية إلى سوق حدودية أو هامشية.
ذه الخطوة، التي تسبق عادة قرارات الانسحاب الجزئي للأموال الأجنبية، تكشف عمق الأزمة الهيكلية التي تعصف بالاقتصاد المصري، وتضعف مصداقية ما تسميه الحكومة “الإصلاح المؤسسي” الذي لم ينجح في تحسين بيئة الاستثمار أو جذب رؤوس الأموال.
أزمة الثقة في السياسات الاقتصادية
منذ سنوات، تراهن الحكومة على خطاب “الإصلاح الاقتصادي” المرتكز على التعويم المتكرر للجنيه، وتقليص الدعم، ورفع الضرائب والرسوم، باعتبارها الطريق الوحيد لاستعادة الثقة. لكنّ النتائج جاءت معاكسة تمامًا؛ إذ أصبح المستثمر الأجنبي عاجزًا عن إعادة أمواله من السوق، وتدهورت مستويات السيولة إلى الحد الذي دفع مؤسسات التصنيف العالمية إلى التحذير من “اختناق كامل في إمكانية النفاذ”.
إعلان FTSE Russell في مراجعتها الدورية لشهر سبتمبر 2025 عن وضع مصر تحت المراقبة، جاء متزامنًا مع ترقية فيتنام إلى مرتبة أعلى، ما يعمّق الفجوة بين الأسواق الصاعدة الحقيقية وتلك التي تجتر خطاب التنمية دون أساس واقعي.
الأسباب الجوهرية وراء الخفض
المؤسسة أوضحت أن القرار مرتبط بعدم استيفاء السوق المصرية لمعايير السيولة وتوفر الأوراق القابلة للاستثمار، إضافة إلى معوقات النفاذ أمام المستثمر الأجنبي، وهي كلها أعراض لسياسات حكومية فاشلة في إدارة ملف النقد الأجنبي وتحرير سوق المال.
تفاقم أزمة الدولار خلال عامي 2024 و2025 أدّى إلى تجميد تعاملات الصناديق الأجنبية، بينما استمرت القيود غير المعلنة على تحويل الأرباح وإعادة الأموال، ما جعل السوق المصرية تبدو مغلقة أمام الخارج، ومكبّلة أمام الداخل. حتى مؤشرات MSCI التي تبقي مصر ضمن الأسواق الناشئة، وجّهت تحذيرات مماثلة بأن استمرار تدهور السيولة سيؤدي إلى التشاور لخفض التصنيف.
تداعيات محتملة على السوق
خفض تصنيف مصر إلى “سوق حدودية” لا يعني مجرد تعديل في جداول البورصات الدولية، بل يمثل ضربة قاسية لثقة المستثمرين المؤسسيين، ويؤدي إلى انسحاب بين 15% و20% من رؤوس الأموال الأجنبية وفق تقديرات المحللين. هذه النسبة، رغم أنها تبدو فنية، إلا أن أثرها الميداني سيكون كارثيًا على سوق يعاني أصلًا من ضعف التداول وغياب المستثمر الأجنبي طويل الأجل.
المؤشرات تظهر أن المستثمر المحلي أصبح المحرك الوحيد للسوق خلال العام الجاري، لكنّه يتحرك في بيئة مضاربة غير مستقرة، مع تقلب حاد في أسعار الأسهم وتراجع القيم الحقيقية بسبب ضعف الثقة وانكماش القدرة الشرائية.
فشل “الإصلاح المؤسسي”
تتباهى الحكومة بما تسميه “إصلاحًا مؤسسيًا” و“تحسين بيئة الأعمال”، لكنّ الواقع الميداني يناقض هذه الشعارات. فالمناخ التشريعي المترهل، وتوسع نفوذ الأجهزة السيادية في الأنشطة الاقتصادية، وهيمنة الشركات التابعة للدولة على القطاعات الحيوية، كلها عوامل تجعل الاستثمار الخاص مغامرة خاسرة.
منذ إطلاق برنامج الخصخصة الجديد عام 2023، لم تحقق الحكومة إلا صفقات محدودة ذات طابع سياسي أكثر من اقتصادي، ما زاد الشكوك في أن البيع الجزئي للأصول ليس إصلاحًا بل تفريطًا اضطراريًا لتأمين السيولة. في المقابل، لم يتحسن العجز المالي، ولم تتراجع خدمة الدين التي تلتهم أكثر من نصف الإيرادات العامة.
قراءة في الموقف الائتماني
وكالات التصنيف الائتماني، وعلى رأسها ستاندرد آند بورز (S&P)، أبقت مصر عند تصنيف B-/B مع نظرة “مستقرة” في أبريل 2025، لكنها شددت على “هشاشة الاحتياجات التمويلية وارتفاع عبء الفوائد”. ورغم أن هذه النظرة لم تتدهور إلى “سلبية”، إلا أنها تعكس غياب الثقة في قدرة الحكومة على معالجة الاختلالات الهيكلية التي تهدد الاستقرار المالي.
اللافت أن هذه الوكالات تفرّق بين التصنيف الائتماني السيادي وتصنيف الأسواق المالية، لكنّ كليهما يغذي الآخر؛ فكلما ارتفعت مخاطر السيولة وتقلصت الثقة في السوق، ازداد الضغط على الجدارة الائتمانية للدولة والعكس صحيح.
مكابرة رسمية وإنكار الواقع
بدل الاعتراف بعمق الأزمة، تواصل الحكومة سياسة “الإنكار” والحديث عن “تحسن تدريجي” و“إصلاحات مؤسسية مستمرة”. إلا أن المؤسسات الدولية لا تبني قراراتها على الخطاب، بل على المؤشرات الواقعية: غياب الدولار، تعثر التحويلات، ضعف الشفافية، وتقلص دور القطاع الخاص.
التعامل الرسمي مع الموقف بدا عاجزًا؛ إذ لم تصدر البورصة أو وزارة المالية أي خطة ملموسة لمعالجة ملاحظات FTSE Russell، بل اكتفت بتصريحات عامة عن “تحسين السيولة” دون خطوات تنفيذية واضحة، ما يعزز توقعات أن الخفض إلى “سوق حدودية” أصبح مسألة وقت.
ثمن السياسات الخاطئة
يدفع الاقتصاد المصري اليوم ثمن عقد كامل من الإدارة المركزية والسياسات قصيرة النظر التي أضعفت البنية الإنتاجية وحوّلت السوق إلى رهينة للقروض والدعم الخارجي. وضع البورصة المصرية على “قائمة المراقبة” ليس مجرد تحذير فني، بل شهادة دولية بفشل النموذج الاقتصادي الحالي، الذي لا يزال يقدّم الواجهة المؤسسية بديلاً عن الإصلاح الحقيقي.
إنقاذ الوضع لا يكون عبر الخطاب أو التجميل الإعلامي، بل بقرارات جريئة: تحرير حقيقي للسوق، تقليص دور الأجهزة الأمنية في الاقتصاد، استقرار نقدي حقيقي، وشفافية في إدارة الدين. دون ذلك، ستبقى مصر تتراجع من “ناشئة” إلى “حدودية” — لا في المؤشرات فقط، بل في الواقع الاقتصادي نفسه