تداول نشطاء تسريبات من داخل وزارة الخارجية المصرية عن وجود فساد إداري ومحسوبية في واحدة من أكثر مؤسسات الدولة حساسية، حيث كشفت الوثائق والمراسلات المسربة عن تعيينات تمت خارج إطار الكفاءة والاختبارات المهنية، واعتماداً على الولاءات والقرابة والنفوذ العسكري، في مشهد يعكس واقع الدولة المصرية تحت حكم العسكر، حيث تحوّلت المؤسسات إلى إقطاعيات مغلقة تُدار بالوساطة لا بالكفاءة.
تسريبات تكشف انهيار معايير الاختيار
التسريبات أظهرت قوائم ترشيح تضم أبناء مسؤولين وضباط وقادة سابقين، ووجوهاً محسوبة على دوائر السلطة، جرى تعيينهم كملاحق دبلوماسيين وموظفين في البعثات الخارجية رغم ضعف قدراتهم اللغوية والمهنية، وافتقارهم إلى أبسط مهارات التواصل والكتابة والتحليل.
فضائح نظام #السيسي وتسريبات وزير الخارجية بدر عبد العاطي، تتوالى.. اعترفوا بكارثة بشأن العاملين في البعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج:
— وطن. يغرد خارج السرب (@watanserb_news) October 8, 2025
"بعضهم حتى مستواه في قراءة اللغة العربية نفسها، لا يتعدى الصف الرابع الابتدائي." pic.twitter.com/L4kPAEHb59
في المقابل، تم تهميش خريجين متفوقين من كليات اللغات والسياسة والاقتصاد والقانون، ممن لم يحظوا بظهر سياسي أو وساطة عائلية. وبحسب مضمون التسريبات، جرى تجاوز الامتحانات التحريرية واللغوية الدقيقة التي كانت تُعد شرطاً أساسياً للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، لتحل محلها مقابلات شكلية وتزكيات شخصية يقررها “من يعرف من”، لا “من يستحق”.
وتكشف المراسلات المسربة عن وقائع فادحة داخل بعض السفارات والقنصليات المصرية في الخارج، من أخطاء لغوية في البرقيات الرسمية إلى ترجمات مشوّهة، وتعاملات مهزوزة مع الجاليات المصرية، ما تسبب في أزمات إدارية وأخطاء دبلوماسية وصدامات مع وزارات خارجية أخرى. وهو ما اعتبره مراقبون دليلاً على انهيار المنظومة المهنية داخل الخارجية تحت ثقل الفساد والمحسوبية.
الوجه الحقيقي للفساد الإداري في دولة العسكر
تسريبات الخارجية لم تكن مجرد حادثة معزولة، بل مرآة تعكس حالة التدهور الإداري التي تضرب أجهزة الدولة في عهد الحكم العسكري. فالمحسوبية لم تعد استثناءً بل قاعدة، والولاء أصبح معياراً بديلاً عن الكفاءة، والوظائف العليا باتت حكراً على المقربين من الأجهزة السيادية وأبناء الضباط والجنرالات المتقاعدين.
هذا النمط من الإدارة يرسّخ شبكة مصالح مغلقة تُقصي الأكفاء وتكافئ المقرّبين، فتتحول الوزارات إلى مكاتب ملحقة بمعسكر السلطة لا بمفهوم الدولة. والنتيجة أن مؤسسات يفترض أن تكون واجهة لمصر، مثل وزارة الخارجية، باتت تعاني من ضعف مهني فادح وتراجع في سمعتها أمام نظيراتها في العالم.
ويشير خبراء إلى أن ما جرى في الخارجية ليس إلا نموذجاً مصغراً لما يحدث في مؤسسات أخرى، من القضاء إلى الإعلام إلى قطاع الأعمال العام، حيث تمتد يد العسكر لتعيين الموالين وإقصاء المستقلين. وهكذا يُفرَّغ جهاز الدولة من خبراته الحقيقية لصالح الولاء الأعمى، فتتآكل الكفاءة ويتعمّق الفساد.
انعكاسات خطيرة على صورة مصر الخارجية
يؤكد دبلوماسيون سابقون أن انهيار معايير التعيين داخل الخارجية ينعكس مباشرة على صورة مصر في الخارج وعلى جودة تمثيلها الدبلوماسي. فالموفد الذي لا يجيد لغة الدولة المضيفة ولا يفهم أعراف العمل الدبلوماسي، يتحول من سفير للبلاد إلى عبء على صورتها وهيبتها. الأخطاء المتكررة في المراسلات الرسمية، وضعف إدارة الملفات القنصلية الحساسة مثل قضايا المحتجزين أو النزاعات العمالية، أدت إلى فقدان ثقة العديد من الجاليات المصرية بالخارج في ممثليهم الدبلوماسيين.
كما أضعف هذا الانحدار المهني قدرة البعثات المصرية على جذب الاستثمارات أو التفاعل مع المؤسسات الثقافية والإعلامية، فغابت الكفاءة وحضرت العشوائية. وفي المقابل، تتضاعف امتيازات أبناء الطبقة المقرّبة من السلطة، ممن يرون في المناصب الخارجية فرصاً للسفر والرفاهية لا مسؤولية وطنية.
انهيار منظومة الاستحقاق
كانت وزارة الخارجية المصرية لعقود مضت مثالاً للانضباط والتقاليد الدبلوماسية الراسخة، تعتمد على اختبارات دقيقة وتدريب صارم قبل إيفاد أي موظف إلى الخارج. أما اليوم، فتشير التسريبات إلى انهيار هذه المنظومة أمام تغوّل النفوذ العسكري، وتحوّل الوزارة إلى ساحة لتوزيع المنافع والمكافآت السياسية.
لقد كشفت التسريبات بوضوح أن ما يجري لم يعد مجرد خلل إداري، بل سياسة ممنهجة لإحكام السيطرة على مفاصل الدولة، حتى في مؤسساتها الأكثر حساسية. إنها شهادة إضافية على أن الفساد في عهد العسكر لم يعد خفياً، بل أصبح قاعدة الحكم وأداته الأساسية لإدارة الدولة.