في كلمته الأخيرة أمام طلاب أكاديمية الشرطة، قدّم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي خطابًا يفيض بالتحذير من فكرة الثورة، مؤكدًا أن “الثورات لا تحقق الإصلاح بل تعيد الدول خمسين سنة إلى الوراء”. هذا التصريح، الذي بدا في ظاهره دعوة للاستقرار، يكشف في جوهره عن فوبيا عميقة لدى النظام من احتمالات الانفجار الشعبي، وعن خوف متأصل من عودة مشاهد الميادين والمظاهرات التي أطاحت برؤساء سابقين.

السيسي قال بوضوح: “الثورة بتاعة التغيير دي تقدر تاخد الدولة خمسين سنة وراء”، في إشارة مباشرة إلى ثورة يناير 2011 التي يراها سببًا للفوضى وليس لحظة تحرر وكرامة كما يراها قطاع واسع من المصريين. هذه الجملة ليست مجرد تحليل تاريخي، بل رسالة سياسية مشفرة يريد من خلالها ترهيب الشارع من فكرة التمرد مجددًا، وتثبيت القناعة بأن أي تحرك جماهيري سيكون خرابًا للدولة لا خلاصًا منها.

 

فزاعة الثورة في خطاب السلطة

منذ سنوات، يستخدم النظام الحاكم خطاب “الخوف من الفوضى” لتبرير إحكام القبضة الأمنية وتكميم الأفواه. لكن ما يميز خطاب السيسي الأخير أنه جاء في لحظة احتقان داخلي متصاعدة، حيث تتنامى شكاوى المصريين من الغلاء، وتظهر حركات احتجاجية شبابية مثل حركة “زد”، التي تحذر من الانفجار الشعبي في ظل السياسات الاقتصادية القاسية. وهنا يبدو خطاب السيسي محاولة استباقية لإجهاض أي موجة غضب جديدة، عبر تخويف المواطنين من تكرار تجربة الثورة وما تبعها من اضطراب سياسي.

السيسي قدّم “الإصلاح المؤسسي” كبديل عن الثورة، قائلاً إن التغيير الحقيقي يجب أن يكون عبر بناء الإنسان وتطوير المؤسسات لا عبر إسقاط الأنظمة. لكن هذا الطرح – وإن بدا عقلانيًا في الشكل – يخفي واقعًا مغايرًا، إذ إن مؤسسات الدولة نفسها تعاني من التسييس، وانعدام الكفاءة، وهيمنة الولاءات الشخصية على حساب الكفاءة، وهو ما يجعل الحديث عن “إصلاحها” دون تغيير سياسي حقيقي مجرد شعار.
خوف النظام من الشارع

اللافت أن السيسي اختار أكاديمية الشرطة منصة لخطابه، وكأنّه يُرسل رسائل مزدوجة: الأولى للأجهزة الأمنية بأن دورها في حماية النظام مستمر، والثانية للمجتمع بأن أي محاولة للتغيير خارج القنوات الرسمية ستواجه بردع حاسم. وهو ما يعزز الانطباع بأن النظام ينظر إلى الشعب باعتباره خطرًا محتملًا لا شريكًا في الإصلاح.

يرى مراقبون أن هذا الخطاب يعكس رعب النظام من احتمالية ثورة جديدة، خصوصًا في ظل التدهور المعيشي وفقدان الأمل في الإصلاح الحقيقي. فالسيسي لا يتحدث عن مواجهة الفساد أو إعادة توزيع الثروة أو ضمان العدالة الاجتماعية، بل يكتفي بتكرار الحديث عن “الانضباط” و”الكفاءة” و”العمل الهادئ”، وهي مفاهيم تُستخدم لتسكين الغضب الشعبي لا لمعالجته.

 

من الثورة إلى “التحكم في الأزمات”

الخطاب يمثل مرحلة جديدة من إدارة الخوف بدل معالجة أسبابه. فبدلًا من الإصلاح الجذري، يعتمد النظام على السيطرة الأمنية والإعلامية لمنع أي حراك شعبي. ويبدو أن السيسي يدرك أن الشارع المصري يختزن غضبًا عميقًا، لذلك يسعى إلى ضبط الإيقاع السياسي عبر رسائل متكررة تُشيطن الثورة وتقدّس “الاستقرار”، حتى لو كان هذا الاستقرار هشًا ومبنيًا على القمع.

هذا الأسلوب لا يعكس ثقة في مؤسسات الدولة كما يدّعي، بل يكشف عن نظام يعيش هاجس السقوط، ويخشى أن تتكرر لحظة يناير بشكل جديد. فحين يتحدث الرئيس عن “العودة خمسين سنة للوراء”، فإن ما يخشاه في الواقع هو العودة إلى لحظة فقدان السيطرة، لا إلى فوضى اقتصادية أو مؤسسية.

الخلاصة أنه في ضوء هذا التحليل، يتضح أن خطاب السيسي الأخير ليس مشروع إصلاح كما يروّج له الإعلام الرسمي، بل هو محاولة سياسية لضبط المجتمع عبر التخويف. فبدل أن يعترف النظام بأخطاء السياسات الاقتصادية وتراكم الفساد الإداري، يلجأ إلى شماعة “الثورة المدمّرة” لتبرير إخفاقه، محاولًا إقناع المصريين بأن الصمت هو الطريق الآمن، وأن أي مطالبة بالتغيير قد تجرّ البلاد إلى الهاوية.

إن هذا الخطاب، في جوهره، يعيد إنتاج منطق الاستبداد ذاته: الاستقرار مقابل الحرية، والطاعة مقابل البقاء. لكنه في الوقت نفسه يعكس هشاشة الثقة بين السلطة والشعب، ويؤكد أن النظام لا يخشى شيئًا بقدر ما يخشى وعي المصريين وعودتهم إلى الشارع من جديد.