في مشهد يعكس اختلالاً واضحاً في ترتيب أولويات الدولة، أبرمت حكومة الانقلاب صفقة لتوريد أدوية إلى ناميبيا من مصانع محلية، في وقت يعاني فيه ملايين المرضى داخل مصر من نقص أصناف أساسية وارتفاع جنوني في الأسعار. الصفقة التي رُوّج لها إعلامياً بوصفها “نجاحاً جديداً للصادرات الصحية المصرية”، بدت في نظر كثيرين دليلاً صارخاً على تجاهل الحكومة لمعاناة المواطنين، وتحويل الدواء من حق إنساني إلى سلعة للتسويق الخارجي وجلب العملة الصعبة، حتى وإن كان الثمن هو حياة المرضى في الداخل.
تصدير الأزمة لا النجاح
تقوم الصفقة، وفق ما تم الإعلان عنه، على تصدير أصناف دوائية مصرية إلى ناميبيا عبر اتفاق رسمي بين الجانبين، وسط وعود بالتزام معايير الجودة العالمية. لكنّ اللافت أن الحكومة لم تنشر حتى الآن أي قوائم تفصيلية بالأصناف والكميات أو جداول التسليم، في غياب تام للشفافية والمساءلة العامة. ويطرح هذا الصمت تساؤلات عن سبب تعتيم المعلومات الخاصة بعقد يؤثر مباشرة على توافر الدواء في السوق المحلية، خاصة أن البلاد تشهد منذ أشهر أزمة حقيقية في أدوية الأمراض المزمنة والمحاليل الوريدية والمضادات الحيوية.
ما يحدث، كما يصفه مراقبون، ليس “تصديراً للدواء”، بل “تصديراً للأزمة” نفسها. ففي حين تُقدّم الحكومة الصفقة على أنها خطوة لتعزيز النفوذ الاقتصادي في أفريقيا، يتساءل المواطن البسيط: كيف تُصدّر مصر أدوية بينما لا يجدها المريض في صيدليات بلده؟ وكيف تُمنح الأولوية للعقود الخارجية بينما تتفاقم معاناة الأسر التي تبحث عن علاج لأطفالها وكبارها دون جدوى؟
حكومة تغلّب الصورة على المضمون
هذه الصفقة ليست سوى امتداد لنهج حكومي يغلب فيه “الاستعراض الإعلامي” على التخطيط الواقعي. فالحكومة التي تتحدث صباح مساء عن “النجاحات الاقتصادية” و”زيادة الصادرات” تغفل حقيقة أن المواطن لا يجد الدواء ولا الطاقة ولا القدرة على تحمّل أسعار الخدمات الأساسية. إن تصدير الأدوية في ظل نقص محلي حاد يكشف عن سياسة عبثية لا تراعي الحد الأدنى من المسؤولية الاجتماعية، وتحوّل الحق في العلاج إلى ضحية جديدة في منظومة الأولويات المقلوبة.
كما أن غياب أي رقابة برلمانية فعّالة أو إعلان رسمي واضح حول بنود التعاقد يزيد من الشكوك في طبيعة إدارة ملف الدواء، الذي بات أحد أهم مؤشرات فشل الإدارة العامة واحتكار القرار في يد دوائر ضيقة من المسؤولين والمنتفعين. فالدولة اليوم، كما يرى خبراء، تُدار بعقلية التاجر لا بعقلية الحكومة التي توازن بين العائد المالي وحقوق المواطنين.
السوق المحلي يدفع الثمن
تأتي الصفقة في وقت يشهد فيه السوق المصري نقصاً واسعاً في مئات الأصناف، نتيجة عجز النقد الأجنبي اللازم لاستيراد المواد الخام، وارتفاع تكاليف الطاقة والنقل، وتعثر المراجعات السعرية التي تبقي خطوط إنتاج كثيرة خاسرة. ومع ذلك، تستمر الحكومة في الترويج لصادرات جديدة بدلاً من حل جذور الأزمة داخلياً.
الصيادلة يشتكون من رفوف شبه فارغة، ومن انقطاع توريد أدوية حيوية رغم وجود مصانع قادرة على الإنتاج، لكن عاجزة عن توفير الدولار اللازم للمواد الفعالة. المواطن العادي يواجه بدوره ارتفاعاً يومياً في أسعار العلاج، حتى صارت بعض الأسر تتخلى عن الدواء أو تقلل جرعاته بسبب الغلاء. وفي ظل هذا الواقع، يبدو من غير المنطقي أن تُصدّر الدولة الدواء بينما يعجز أبناؤها عن شرائه أو إيجاده.
المطلوب لا المبرر
الحكومة مطالبة فوراً بنشر بيان رسمي يوضح تفاصيل الصفقة مع ناميبيا: ما هي الأصناف المصدّرة؟ ما كمياتها؟ هل تشمل أدوية تعاني السوق المصرية نقصاً فيها؟ وهل يوجد بند يلزم بتغطية احتياجات السوق المحلي قبل التصدير؟ كما يجب إعلان آلية واضحة لتخصيص حصيلة التصدير لتوفير عملة استيراد الخامات وضمان استدامة الإنتاج المحلي.
من الضروري كذلك وضع “قائمة حمراء” من الأدوية الحساسة يُمنع تصديرها نهائياً وقت الأزمات، وربط أي ترخيص تصديري بنظام رقابي يومي للمخزون تشرف عليه نقابة الصيادلة وخبراء مستقلون.
حكومة تُصدّر العجز وتستورد السخط
صفقة ناميبيا ليست مجرد اتفاق تجاري، بل مرآة لسياسات حكومة فقدت أولوياتها. ففي الوقت الذي تتحدث فيه عن “التنمية” و”الريادة الأفريقية”، يعيش المواطن المصري واقعاً من العجز والغلاء وانهيار الثقة. تصدير الدواء في ظل الجوع الدوائي المحلي ليس إنجازاً، بل شهادة إدانة لحكومة تبيع ما يحتاجه شعبها من أجل صورة عابرة في نشرات الأخبار.