في مشهد يلخص عمق الأزمة الاقتصادية والإدارية التي تعصف بالقطاع الصحي في مصر، أغلقت 11 مصنع أدوية ومستلزمات طبية أبوابها نهائياً خلال الأشهر الماضية، بعد أن تراكمت ديون هيئة الشراء الموحد — وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن توريد الدواء والمستلزمات للجهات الحكومية — لتصل إلى نحو 43 مليار جنيه مصري (قرابة 888 مليون دولار). هذه الكارثة، التي تهدد صناعة الدواء الوطنية بأكملها، تكشف الوجه الحقيقي لما يوصف بـ«الفساد الإداري والعجز المالي» داخل منظومة يسيطر عليها العسكريون ويديرونها بعقلية بيروقراطية مغلقة لا تعرف سوى التكديس والجمود.
عجز هيئة الشراء الموحد يشل الصناعة الوطنية
من أصل 40 مصنعاً تعمل في قطاع الأدوية والمستلزمات الطبية، اضطر أكثر من ربعها إلى الإغلاق الكامل بسبب توقف هيئة الشراء الموحد عن سداد مستحقاتها منذ فترة طويلة. هذه المصانع كانت تورد أدوية ومستلزمات ضرورية للمستشفيات الحكومية، لكنها لم تتلقّ أي مدفوعات عن توريداتها، ما أدى إلى نقص حاد في السيولة وتعثر في سداد التزاماتها تجاه الضرائب والجمارك والبنوك.
وبحسب بيانات من داخل القطاع، فإن الهيئة — التي يفترض أن تكون الجهة المنظمة والمحفزة للصناعة الوطنية — تحولت إلى عبء قاتل على الشركات، إذ تحتكر نحو 60% من مشتريات سوق المستلزمات الطبية في مصر، ما يعني أن تعثرها المالي يصيب السوق كله بالشلل. فهي ليست مجرد مشترٍ متأخر في السداد، بل هي اللاعب الأكبر الذي يقرر من يعيش ومن يُغلق أبوابه.
وعود حكومية بلا تنفيذ
رغم تعهد الهيئة بسداد دفعات جزئية من الديون، فإنها لم تلتزم بما وعدت به. فقد أعلنت نيتها سداد 10 إلى 11 مليار جنيه كمرحلة أولى من إجمالي الديون المتراكمة، لكن تلك الدفعة لم تُصرف في مواعيدها. أما بقية المديونية، فقد تم الإعلان عن خطة لجدولتها على ثلاث سنوات، وهي خطة اعتبرها أصحاب المصانع “غير واقعية” في ظل التضخم وارتفاع الفوائد البنكية. فالشركات التي لا تستطيع دفع رواتب العاملين أو سداد أقساط البنوك لن تنتظر ثلاث سنوات لتقبض حقوقها من الحكومة.
وقد حاولت بعض المصانع تقديم حلول لتفادي الانهيار، مثل إعادة البضائع الموردة لبيعها في السوق لتعويض الخسائر، لكن هيئة الشراء الموحد رفضت ذلك بشكل قاطع، متمسكة بالسيطرة الكاملة على المخزون رغم عجزها عن السداد، وهو ما اعتبره الخبراء نموذجاً صارخاً لـ“العنجهية الإدارية” التي تتعامل مع القطاع الخاص بوصفه تابعاً لا شريكاً.
فساد إداري تحت غطاء “السيادة”
أزمة هيئة الشراء الموحد ليست مجرد أزمة مالية، بل تعبير عن فوضى الإدارة في عهد العسكر، حيث تتكدس الملفات داخل مؤسسات حكومية تُدار بقرارات فوقية دون رقابة أو شفافية. فقد شهدت الهيئة في الأشهر الأخيرة تغييرات متكررة في إدارتها، ما زاد من سوء الأداء المالي وعرقل اتخاذ القرارات. ومع غياب الرقابة البرلمانية أو الإعلامية الفعلية، أصبحت الهيئة “صندوقاً مغلقاً” تُدار فيه مليارات الجنيهات بعيداً عن أعين الرأي العام.
النتيجة: شركات محلية تُغلق، أدوية تختفي من الأسواق، وأسعار ترتفع على المواطن الذي يجد نفسه يدفع ثمن فشل المنظومة بأكملها. إن تراكم ديون قدرها 43 مليار جنيه على هيئة حكومية واحدة ليس مجرد خلل محاسبي، بل فضيحة وطنية تُظهر كيف تتحول البيروقراطية العسكرية إلى أداة لتدمير ما تبقى من القطاع الصناعي المدني.
تداعيات خطيرة على سوق الدواء
إغلاق 11 مصنعاً من أصل 40 يعني أن أكثر من ربع الطاقة الإنتاجية للقطاع قد توقفت. وهذا ينعكس فوراً على السوق: نقص في المعروض، ارتفاع في الأسعار، واعتماد متزايد على الاستيراد بالدولار، في وقت تعاني فيه مصر من أزمة عملة طاحنة. ويؤكد خبراء الصناعة أن استمرار الوضع الحالي سيقود إلى فقدان مئات الوظائف، وربما خروج المزيد من المصانع الصغيرة والمتوسطة من السوق خلال الشهور القادمة.
الأخطر أن الهيئة نفسها، التي تم إنشاؤها لتوفير الدواء بأسعار مناسبة وضمان استدامة الإمدادات، أصبحت الآن هي سبب الأزمة. فبدلاً من أن تضمن التوريد المنتظم، تسببت بتوقف سلاسل الإمداد، وبدلاً من أن تدعم التصنيع المحلي، خنقته بالديون والتأخير والمركزية المفرطة في اتخاذ القرار.
النهاية: عندما يصبح الدواء ضحية الفساد
ما يجري اليوم في قطاع الدواء ليس مجرد أزمة مالية عابرة، بل انعكاس مباشر لفساد هيكلي في مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها العسكريون منذ سنوات. فحين تُدار الصناعة الوطنية بعقلية “الأوامر”، وتُساق الشركات إلى الإفلاس بسبب تأخر مستحقاتها لدى جهة حكومية واحدة، فهذا يعني أن الدولة نفسها أصبحت عبئاً على اقتصادها.
الهيئة التي أنشئت لتضمن الأمن الدوائي أصبحت تهدد هذا الأمن. والمصانع التي كانت تنتج الأدوية للمستشفيات الحكومية تغلق أبوابها الواحدة تلو الأخرى. وبين وعود حكومية لا تُنفذ، وديون متراكمة تتجاوز 43 مليار جنيه، يتآكل ما تبقى من صناعة الدواء الوطنية، فيما يُترك المواطن ليواجه نتائج الفساد الإداري وسوء الإدارة وحده.