لم تكن قمة شرم الشيخ للسلام في أكتوبر 2025 حدثًا سياسيًا عاديًا في نظر تيار واسع من المحللين النقديين، بل كانت "مهزلة" كاشفة، ومشهدًا مسرحيًا يفضح عمق الأزمة التي تعيشها النخب السياسية الحاكمة في المنطقة والعالم. فبينما كانت الكاميرات ترصد توقيع "الوثيقة الشاملة" لإنهاء الحرب في غزة ، كانت أقلام محللين مثل ياسر الزعاترة، ومن هم على الخط الفكري لعبد الباري عطوان ونظام المهداوي، ترصد ما هو أبعد: مشهد الخضوع والتسليم لإرادة رجل واحد، مما يعكس خواءً استراتيجيًا وانهيارًا للكرامة الوطنية

 

"انهيار أخلاقي للنظام الدولي برمته"

بينما كانت الأنظار تتجه رسميًا إلى "قمة شرم الشيخ للسلام" التي انعقدت في 13 أكتوبر 2025، بوصفها محطة حاسمة لإنهاء الحرب في غزة، كان هناك مشهد آخر يتشكل خلف كواليس الدبلوماسية، مشهدٌ لخصه الكاتب د. مراد علي بأنه "انحدار" للبشرية، كاشفًا عن "انهيار أخلاقي للنظام الدولي برمته". هذه الرؤية النقدية لم تكن معزولة، بل وجدت صدى في تحليلات خبراء ومراقبين رأوا في القمة مهزلة تفضح هشاشة النخب السياسية الحاكمة.

ففي الوقت الذي احتفت فيه البيانات الرسمية بتوقيع "وثيقة شاملة" لإنهاء الحرب، برئاسة مشتركة من عبد الفتاح السيسي والأمريكي دونالد ترامب وبحضور قادة أكثر من 20 دولة ، كانت الأنظار النقدية ترصد سلوكًا وصف بالنرجسية والغطرسة من قبل ترامب، وتعاملًا يفتقر إلى الكرامة من قبل قادة العالم.

 

مهزلة برعاية دولية

لم يكن وصف د. مراد علي للمشهد بعيدًا عن الوقائع التي رصدتها وسائل الإعلام. فالرئيس الأمريكي، الذي وصل إلى شرم الشيخ، لم يتردد في المزاح بشأن تأخره عن القمة، وهو ما فسره منتقدون بأنه استخفاف بانتظار العالم له. هذه الحادثة لم تكن سوى جزء من عرض متكامل بدا فيه ترامب وكأنه يدير احتفالًا خاصًا وليس قمة تناقش مصير الشعوب.

 

 

"أزعر واشنطن" نجم الزفّة

لخّص الكاتب والمحلل السياسي ياسر الزعاترة المشهد بكلمات لاذعة، معتبرًا أن الحديث عن "السلام" في هذه القمة هو ضرب من العبث. في تغريدة له، وصف الزعاترة دونالد ترامب بأنه "نجم الزفّة الأكبر" و"أزعر واشنطن"، متسائلًا: "عن أيّ سلام يتحدّثون؟!".

هذا الوصف لم يكن مجرد شتيمة سياسية، بل هو جوهر التحليل النقدي:

تفريغ الحدث من قيمته: وصف القمة بـ"الزفّة" (الموكب الاحتفالي الصاخب) يعني تجريدها من أي وقار أو جدية. هي ليست محفلًا دوليًا لحل أزمة، بل مجرد استعراض واحتفال يدور حول شخص واحد.

مركزية "الأزعر": استخدام توصيف "أزعر واشنطن" يربط سلوك ترامب النرجسي وتاريخه في المنطقة (الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وضم الجولان) بالمشهد الحالي. فمن وجهة نظر الزعاترة، فإن القادة لا يجتمعون مع صانع سلام، بل مع من أمعن في إذلالهم وتجاهل حقوق شعوبهم، ومع ذلك يحتفون به.

فضح النخب: عندما يكون "الأزعر" هو "النجم"، فهذا لا يفضح شخصيته هو فحسب، بل يكشف عن هشاشة من حوله الذين ارتضوا أن يكونوا مجرد "كومبارس" في مسرحيته، يتوسلون رضاه مقابل حمايته لأنظمتهم.

 

 

مسرحية التبعية والتوسّل

يتناغم تحليل الزعاترة مع الخط الفكري الذي يمثله عبد الباري عطوان ونظام المهداوي، والذي يرى أن العديد من الأنظمة العربية فقدت مشروعها الذاتي وبات بقاؤها مرهونًا بالرضا الأمريكي. من هذا المنظور، فإن قمة شرم الشيخ لم تكن سوى تجلٍّ صارخ لهذه التبعية:

مشهد الاصطفاف المهين: حرص ترامب على التقاط صور تذكارية مع كل قائد على حدة لم يكن بروتوكولًا عاديًا. في التحليل النقدي، هذا المشهد هو طقس من طقوس "الولاء"، حيث يقف القادة في صف، ينتظرون دورهم لنيل "صك الرضا" من الحاكم الفعلي المتمثل في الرئيس الأمريكي. إنه تجسيد لفكرة "توسل الرضا" التي أشار إليها د. مراد علي في نصه الأصلي.

لغة الإذعان الصريح: الخطابات الرسمية كانت الدليل الأوضح على هذه الهشاشة. عندما يخاطب الرئيس المصري نظيره الأمريكي قائلًا: "لقد أثبتتم فخامة الرئيس أن القيادة الحقيقية ليست في شن الحروب وإنما في القدرة على إنهائها، ونحن على ثقة في قيادتكم" ، فإن هذا لا يُقرأ في مدرسة التحليل النقدي على أنه دبلوماسية، بل هو إعلان صريح بتسليم زمام المبادرة والاعتراف بالعجز الذاتي. إنه إقرار بأن الحل لا يمكن أن يأتي من الداخل، بل هو منحة من "القائد الحكيم".

السياسة كصفقة شخصية: تركيز ترامب على الإشادة الشخصية، وشكر السيسي على إرسال المقاتلات لمرافقته، وتبادل عبارات المديح الشخصي ، يحوّل القضايا المصيرية من شأن عام واستراتيجي إلى علاقات وصفقات شخصية. وهذا تمامًا ما ينتقده عطوان والمهداوي باستمرار: "مسرحة السياسة" حيث يصبح المهم هو إرضاء "الزعيم" وليس تحقيق مصالح الشعوب.

 

 

غياب المشروع الذاتي

من منظور هؤلاء الكتاب، المهزلة الحقيقية في قمة شرم الشيخ ليست فقط في سلوك ترامب المتعجرف، بل في التهافت المقابل من النخب الحاكمة لنيل رضاه. هذه الهشاشة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة عقود من تآكل السيادة وغياب أي مشروع وطني أو إقليمي مستقل.

لقد كشفت القمة أن هؤلاء القادة، بدلًا من أن يأتوا بمشروعهم الخاص ويفرضوا شروطهم ككتلة متحدة، أتوا كأفراد ينتظرون ما سيجود به "نجم الزفّة". وهذا المشهد، بكل ما فيه من ابتسامات متكلفة وكلمات ثناء مبالغ فيها، هو التعبير الأكثر بلاغة عن نظام سياسي فقد بوصلته، وبات بقاؤه مرتبطًا بالتوسل على أبواب القوى الخارجية.