في سابقة تكشف النوايا الحقيقية لنظام الانقلاب العسكري بمصر، أعلنت الأكاديمية العسكرية تشكيل "مجلس علمي" برئاسة وزير الأوقاف أسامة الأزهري، في خطوة تمثل قفزاً فاضحاً على الدستور المصري، وتعدياً صارخاً على اختصاصات الأزهر الشريف الذي يفترض أنه "المرجع الأساسي" في العلوم الدينية.

 

هذا القرار ليس إجراءً إدارياً عابراً، بل هو تتويج لمشروع ممنهج يقوده قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي منذ عشر سنوات لعسكرة الدين والسيطرة الكاملة على المنابر والعقول، وتحويل الخطاب الديني إلى أداة طيّعة في يد نظام عسكري يرى نفسه فوق الدستور والشعب والمؤسسات.

 

البيان العسكري المقتضب الخالي من التفاصيل، والذي صدر السبت الماضي، يؤكد أن هذا المجلس جاء "تنفيذاً لتوجيهات السيسي"، ما يعني أن القائد العسكري أصبح هو المرجع الديني الأعلى في البلاد، متجاوزاً الأزهر ومتجاهلاً الدستور الذي تنص مادته السابعة بوضوح على أن الأزهر هو "المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية".

 

لكن يبدو أن السيسي قرر أن الدستور مجرد ورقة يمكن تجاهلها عندما يتعلق الأمر بمشروعه لإخضاع الدين لسلطته المطلقة.

 

مشروع عسكرة الدين: من السيطرة على المنابر إلى تصنيع "أئمة الجمهورية الجديدة"

 

منذ نوفمبر 2024، فرض السيسي على دعاة وزارة الأوقاف من حملة الدكتوراه برنامجاً تدريبياً لعامين بالأكاديمية العسكرية، في خطوة أثارت ضجة واسعة بعد حديثه الصادم الذي زعم فيه أن تاريخ المسلمين خلال 1400 سنة تسبب "في شكل من أشكال التخلف الديني والانحطاط الديني".

 

هذا التصريح الخطير يكشف عن عقلية رجل يرى نفسه مصلحاً دينياً قادراً على إعادة كتابة 14 قرناً من التاريخ الإسلامي.

 

السيسي لم يكتفِ بذلك، بل طالب الأئمة بأن يكونوا "حراساً للحرية" وليسوا "حراساً للعقيدة"، في عبارة تكشف المشروع الحقيقي: تفريغ الدين من محتواه وتحويله إلى أداة للضبط الاجتماعي وخدمة السلطة.

 

والأخطر من ذلك، أنه قلّل من قيمة الدكتوراه التي حصل عليها هؤلاء الدعاة، زاعماً أن "عدد ساعات الدراسة بالدورة تفوق عدد الساعات اللازمة للحصول على درجة الدكتوراه".

 

البرنامج التدريبي الذي يمتد 24 أسبوعاً يستهدف صياغة شخصية الإمام بما يتماشى مع رؤية "الجمهورية الجديدة"، و"فهم التحديات والمخاطر التي تواجه الدولة"، و"غرس قيم المواطنة والانتماء".

 

الهدف الحقيقي واضح: تصنيع أئمة موالين للنظام، يروّجون لمشروعاته القومية، ويراقبون أي "تغيرات فكرية" في مناطقهم ومساجدهم ويبلغون الجهات الأمنية عنها.

 

إنه تحويل الإمام من داعية إلى مخبر أمني يرتدي العمامة.

 

القفز على الأزهر: إعادة هندسة المرجعية الدينية لصالح الأمن والعسكر

 

الباحث المصري الدكتور محمد الصاوي، وصف القرار بأنه "سابقة خطيرة في بنية الدولة الدينية، ويعكس قفزاً واضحاً على نص وروح الدستور".

 

وأوضح أن القرار "لا يمكن فهمه باعتباره إجراءً إدارياً عابراً، بل هو إعادة هندسة متعمدة لمجال إنتاج الخطاب الديني، عبر سحبه من مؤسسة علمية تاريخية مستقلة، وإدخاله في إطار (عسكري–أمني)".

 

المشكلة الحقيقية للسيسي مع الأزهر بدأت منذ سنوات، بعد خلافات وسجالات علنية حول قضايا "الطلاق الشفهي" و"تجديد الخطاب الديني"، حيث رفض شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الانصياع التام لرؤية السلطة، وأعلن رفضه "التهوين من شأن التراث لإرضاء الحداثة".

 

هذا الاستقلال النسبي للأزهر أزعج نظاماً يريد السيطرة المطلقة على كل شيء، فكان الحل هو استبدال الأزهر بوزارة الأوقاف الخاضعة بالكامل للسلطة التنفيذية.

 

الصاوي أكد أن خطورة هذا المسار تكمن في "تسييس الدين وإخضاعه للعقيدة الأمنية، وتفكيك وحدة المرجعية الدينية الرسمية، وإضعاف مكانة الأزهر عالمياً بوصفه مرجعية سنية مستقلة".

 

عسكرة المجال الديني تفتح الباب أمام خطاب أحادي يفتقد التعدد والاجتهاد، ويُستخدم كأداة ضبط اجتماعي لا كمنظومة قيم.

 

مشروع "القبيلة العسكرية": عندما يصبح الجيش مرجعاً دينياً وسياسياً واقتصادياً

 

السياسي والإعلامي المصري الدكتور حمزة زوبع، كشف حقيقة المشروع قائلاً: "تحركات السيسي منذ 2014 و2015، تؤكد توجهه لعسكرة البلاد وليس الاقتصاد فقط، وفكرته قائمة على أن الجيش لا يمسك بالاقتصاد فقط بل الفكرة الأساسية سيطرته على كل شيء، فهو يؤمن بفكرة (القبيلة العسكرية)".

 

زوبع أوضح أن السيسي "تحدث لسنوات عن الدين الجديد، وتطوير الخطاب الديني، ويرى أن الأزهر عقبة أمامه، وبالتالي حاول بقدر الإمكان أن تكون الأوقاف الجهة الحاكمة والممثلة للدين".

 

الهدف النهائي هو إنشاء "مجلس فوق الأزهر، يمنح الدرجة العسكرية في الدين من داخل الجيش"، لتسير الأمور وفقاً لنظام القبيلة العسكرية.

 

والأخطر من ذلك، أن زوبع أشار إلى أن "السيسي ليس لديه رأي فقهي، ولا يؤمن بالفقه، ولديه مشكلة مع الدين عموماً، ولا يرى أن هذا الدين صالح لهذا الزمن وصرح بذلك".

 

وذكّر بأن السيسي "أول حاكم عربي يقول كلمة (الإرهاب الإسلامي)" في حوار مع CNN عام 2016.

 

الكاتب الصحفي جمال سلطان، وصف القرار بأنه "خطوة صادمة وغير موفقة"، داعياً الجيش لمراجعتها، مؤكداً أنها "تمثل تعدياً صريحاً على دستور الدولة الذي يفترض أن يحميه الجيش".

 

ودعا الأكاديمية العسكرية لأن تنشغل "بتكوين وإعداد خبراء عسكريين واستراتيجيين"، وليس "الانشغال بالإشراف على تفسير القرآن وإعراب القرآن وعلوم الحديث".


https://www.facebook.com/alfanar.alfanar.1/posts/1376493917504889?ref=embed_post

ما يحدث في مصر اليوم ليس مجرد عسكرة للاقتصاد أو الإدارة، بل هو مشروع شامل لإخضاع الدين والعقول والمؤسسات لسلطة عسكرية مطلقة لا تعترف بدستور أو قانون أو مرجعية مستقلة.

 

السيسي يريد أن يكون الحاكم والمفتي والمرجع الديني في آن واحد، وهو ما لا يختلف كثيراً عن تجارب ديكتاتورية سابقة انتهت بكوارث على شعوبها.