في خضم حالة التوتر التي تخيّم على الهدنة الهشة في قطاع غزة، قدّم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تفسيراً لسبب التأخير الذي تواجهه حركة المقاومة الإسلامية حماس في تسليم جثث المحتجزين الإسرائيليين، في وقت عاد فيه مجدداً لاستخدام لغة التهديد التي اعتاد توجيهها لحركات التحرر الفلسطينية.
تصريحات ترامب، التي جاءت وسط تصاعد القلق الإسرائيلي من تأخر التنفيذ الكامل لبنود الاتفاق الذي رعته واشنطن، كشفت عن إدراك غير مباشر لتعقيدات الواقع الميداني الذي تواجهه حماس في قطاع أنهكته حرب مدمرة استمرت عامين.
في تصريحات لافتة، بدا ترامب وكأنه يخفف الضغط على الحركة، إذ أقرّ بالصعوبات الحقيقية التي تواجهها في عملية البحث عن الجثث وسط الركام. وقال في إفادة صحفية: "إنهم يبحثون، بالتأكيد، إنهم يبحثون. إنهم يحفرون بالفعل. هناك مواقع يقومون فيها بالحفر ويكتشفون العديد من الجثث التي يجب بعد ذلك فرزها". هذا التصريح النادر من رئيس أمريكي سابق يعكس – ربما دون قصد – مدى الفوضى الإنسانية التي خلّفتها آلة الحرب الإسرائيلية، وحجم الجهود التي تبذلها المقاومة الفلسطينية لتطبيق بنود الاتفاق رغم الحصار والدمار.
من جانبها، أكدت حركة حماس أن جميع الجثث التي أمكن الوصول إليها قد تم تسليمها فعلاً، مشيرة إلى أن استعادة الجثث المتبقية تتطلب "جهوداً كبيرة ومعدات متخصصة" للبحث بين الأنقاض. ووفقاً لبنود الاتفاق، كان من المفترض أن تسلم الحركة رفات 28 محتجزاً بحلول يوم 13 أكتوبر، إلى جانب 20 محتجزاً أحياء. وقد أوفت الحركة بتسليم جميع الأحياء رغم الظروف القاسية، بينما بقي مصير 19 جثة مجهولاً نتيجة صعوبات فنية وميدانية بحتة. هذا الموقف، وإن تم تفسيره في إسرائيل كتلكؤ، إلا أنه يعكس في الواقع انضباطاً ومسؤولية من طرف يرزح تحت عدوان مستمر ويُطالب بمستحيلات لوجستية في أرض محروقة.
الموقف الإسرائيلي والواقع الميداني
في الجانب الإسرائيلي، يزداد القلق يوماً بعد يوم مع استمرار غياب جميع الجثث. وقد وجه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس قادة الجيش لوضع خطة عسكرية "لإخضاع حماس" إذا لم تنفذ شروط ترامب.
وأكد متحدث باسم كاتس أن إسرائيل، بالتعاون مع الولايات المتحدة، "ستستأنف العمليات العسكرية" إذا لم تُسلّم جميع الجثث، في تهديد يعكس نزعة انتقامية أكثر منه التزاماً بالاتفاق.
وفي مقابل هذه التصريحات العدوانية، أظهرت التقارير الميدانية أن حماس بدأت في إعادة فرض النظام داخل غزة بعد مرحلة الفوضى التي خلّفها العدوان. فقد شوهدت عناصرها المسلحة في الشوارع لضبط الأمن، واستعادة السيطرة على مناطق متضررة.
كما انتشرت مقاطع مصوّرة غير موثقة تزعم تنفيذ الحركة أحكاماً بحق متهمين بالتعاون مع الاحتلال. ورغم أن ترامب علّق بأن هذه الأفعال "لا تزعجه كثيراً"، فإن جوهر الصورة هو أن حماس تمارس سلطة فعلية على الأرض وتحاول إعادة ضبط الأوضاع بما يحفظ الأمن الداخلي ويحمي ظهر المقاومة من الاختراق.
مستقبل الهدنة
تبدو الأيام المقبلة حاسمة في مصير الهدنة. فبينما تواصل حماس تقديم مبرراتها الفنية والإنسانية للتأخير في تسليم الجثث، وسط إشادة ترامب إلا أن إسرائيل تستخدم لغة التهديد والابتزاز السياسي. ومع ذلك، أثبتت الحركة حتى الآن أنها الطرف الأكثر التزاماً واستقراراً رغم الحصار، والأكثر قدرة على إدارة التوازن بين المقاومة والسياسة.
إن المشهد برمته يبرز مفارقة عميقة: من جهة، قوة مقاومة محاصَرة تُطالب بما يتجاوز طاقتها الميدانية، ومن جهة أخرى قوى دولية تتحدث باسم "السلام" فيما تلوّح بالحرب. وفي قلب هذه المعادلة، تظل حماس تثبت أنها رقم صعب في معادلة الشرق الأوسط، لا يمكن تجاوزه لا بالضغط ولا بالتهديد.