في الوقت الذي يفترض أن يسود فيه الهدوء الحذر بعد اتفاق وقف إطلاق النار الهش في قطاع غزة، تواصل إسرائيل سلسلة من الانتهاكات التي تنسف أسس الهدنة وتعمّق المعاناة الإنسانية لسكان القطاع المنكوب. فمنذ الإعلان عن وقف إطلاق النار الأخير، لم تتوقف طائرات الاحتلال عن التحليق في أجواء القطاع، فيما تكررت عمليات القصف المحدود والاستهدافات المتفرقة على أطراف المناطق الحدودية، بالتوازي مع إجراءات تضييق جديدة طالت المساعدات الإنسانية والمواد الإغاثية.

مصادر ميدانية وشهود عيان أكدوا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي أطلقت النار أكثر من مرة باتجاه المزارعين والصيادين على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع، ما أدى إلى وقوع إصابات وإثارة الذعر بين المدنيين. كما رصدت منظمات حقوقية استمرار استهداف آليات الدفاع المدني أثناء عملها في إزالة الركام والبحث عن مفقودين، في خرقٍ واضحٍ لبنود الاتفاق التي تنص على تسهيل حركة الطواقم الإنسانية وضمان سلامتها.
 

تقليص حاد في المساعدات الإنسانية
الانتهاكات الإسرائيلية لم تقف عند الجانب العسكري، بل امتدت إلى الجانب الإنساني، حيث شهدت الأيام الماضية تقليصاً كبيراً في عدد الشاحنات المسموح بدخولها إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم، الذي يُعد المنفذ الوحيد لإدخال المواد الغذائية والطبية والوقود.
وقالت مصادر في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إن إسرائيل خفّضت عدد الشاحنات المصرّح لها بالعبور يومياً إلى أقل من النصف، ما أدى إلى نقص حاد في المواد التموينية والأدوية ووقود المستشفيات.
كما تم منع دخول معدات إزالة الأنقاض الثقيلة التي تعد ضرورية لفتح الطرق وإعادة تشغيل البنية التحتية المدمرة، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بأنه "إجراء عقابي يعرقل جهود الإغاثة ويعرض حياة المدنيين للخطر".
 

تعطيل متعمّد لجهود إعادة الإعمار
تتهم الفصائل الفلسطينية سلطات الاحتلال باستخدام سياسة "الخنق البطيء" عبر منع إدخال مواد البناء والمعدات الثقيلة، الأمر الذي يجعل إعادة الإعمار شبه مستحيلة. فبعد أكثر من عام من الحرب، ما تزال آلاف الأسر تعيش في خيام مؤقتة أو بين أنقاض منازلها، في حين تُظهر الإحصاءات أن أكثر من 70% من البنية التحتية في شمال القطاع غير صالحة للاستخدام.

المنسق الإنساني للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية وصف الوضع بأنه "قنبلة موقوتة"، مؤكداً أن استمرار الحصار ومنع دخول المعدات يعرقل أي تقدم ملموس في ملف إعادة الإعمار، ويُبقي مئات آلاف المدنيين في دائرة الفقر والتشرد.
وأضاف أن إسرائيل تستخدم ما يسمى "الاعتبارات الأمنية" لتبرير قيودها، بينما الهدف الحقيقي هو فرض واقع سياسي جديد على الأرض عبر إضعاف المؤسسات المحلية والضغط على السكان للقبول بالأمر الواقع.
 

خروقات متكررة وصمت دولي
في المقابل، اكتفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ببيانات مقتضبة تدعو إلى "ضبط النفس" و"تسهيل وصول المساعدات"، من دون أي إدانة صريحة أو خطوات عملية لوقف الانتهاكات.
ويرى محللون أن هذا الصمت الدولي يشجّع إسرائيل على المضي في سياسة العقاب الجماعي، خاصة مع غياب أي آلية رقابية أو مساءلة حقيقية.
وتشير تقارير منظمات حقوق الإنسان إلى أن إسرائيل خرقت وقف إطلاق النار أكثر من 40 مرة خلال الأسابيع الماضية، من بينها عمليات قصف محدودة واستهداف نقاط مراقبة وإطلاق نار باتجاه المدنيين، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد منهم.
 

غزة بين الحصار والركام
في ظل هذا الواقع، يجد سكان غزة أنفسهم محاصرين بين ركام المنازل وقيود الاحتلال، بلا كهرباء كافية ولا مياه صالحة للشرب، فيما تتصاعد المخاوف من تفشي الأمراض بسبب تراكم النفايات وتعطل شبكات الصرف الصحي.
وتحذر منظمات الإغاثة من كارثة بيئية وصحية وشيكة إذا استمر منع دخول معدات إزالة المخلفات الثقيلة، مشيرة إلى أن آلاف الأطنان من الأنقاض والمخلفات الحربية ما تزال تسد الطرقات وتحاصر الأحياء السكنية.

ختاماً، يظهر بوضوح أن خروقات إسرائيل لوقف إطلاق النار لم تكن مجرد تجاوزات ميدانية محدودة، بل جزء من سياسة منهجية تهدف إلى إبقاء غزة في حالة إنهاك دائم، عبر الجمع بين القصف والحرمان الإنساني. وبينما يرفع المجتمع الدولي شعارات "الدعم الإنساني"، تبقى معاناة الفلسطينيين محصورة تحت الركام، تنتظر لحظة صدق دولية لا تزال بعيدة المنال.