لا تزال مصر تدفع ثمن الإهمال الرسمي والغياب الممنهج لسياسات التنمية والعدالة الاجتماعية، إذ تتكرّر المآسي الناتجة عن الهجرة غير الشرعية، ولا جديد سوى تعدد الضحايا وتراكم الألم. ورغم ما تُعلنه الحكومة من خطط واستراتيجيات لمكافحة الهجرة غير النظامية، إلا أن استمرار الحوادث المأساوية، وآخرها حادثة قرية أبو شلبي بمحافظة الشرقية، يكشف بوضوح عن خلل بنيوي في تعامل الدولة مع الأزمة، وغياب رؤية واقعية تُعالج الجذور الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع الشباب إلى الهروب من الفقر إلى الموت في عرض البحر.
حزن يلف قرية أبو شلبي بعد غرق الشقيقين الحويطي
خيم الحزن على قرية أبو شلبي التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية بعد تلقي الأهالي نبأ فقدان الشقيقين أحمد وعبدالرحمن عبدالجواد الحويطي، إثر غرق مركب للهجرة غير الشرعية قبالة السواحل الإيطالية أثناء محاولتهما الوصول إلى أوروبا.
https://www.facebook.com/reel/2968589896667150
ووفقًا لتقارير إيطالية، فإن قاربًا كان يحمل نحو 30 مهاجرًا انقلب على بُعد خمسين ميلًا من جزيرة لامبيدوزا، ما أسفر عن مقتل شخص وفقدان نحو عشرين آخرين، بينما تم إنقاذ 11 ناجيًا.
https://x.com/altahawi/status/1979617394516709768
وتجري حاليًا عملية بحث وإنقاذ واسعة بإشراف مركز التنسيق والإنقاذ المالطي RCC Malta، بعد رصد القارب المقلوب في منطقة تقع جنوب شرقي لامبيدوزا. وتم تحديد الموقع بواسطة طائرة مراقبة إيطالية تابعة لخفر السواحل، التي أطلقت قارب إنقاذ فور اكتشاف الحادث. وبحسب روايات الناجين، فإن المفقودين يبلغ عددهم نحو 20 شخصًا، بينهم مصريون، وتشارك في عمليات الإنقاذ زوارق تابعة لخفر السواحل الإيطالي وسفن تجارية وطائرات تابعة لوكالة فرونتكس الأوروبية.
أهالي الشرقية في صدمة: غياب رسمي وتجاهل للمأساة
حالة من الذهول والصدمة خيمت على أهالي محافظة الشرقية عقب الحادث. تقول شقيقة أحد الضحايا: "إحنا مصدومين ومش فاهمين حاجة.. عاوزين حد من الحكومة يطمنّا، محدش بيكلمنا ولا بيقولنا الحقيقة."
وأكد عدد من أهالي القرية مصرع الشقيقين غرقًا خلال محاولتهما الهجرة غير الشرعية، مؤكدين أن السلطات المصرية لم تبادر بالتواصل مع الجانب الإيطالي أو متابعة مصير المفقودين، فيما لا يزال مصير آخرين غامضًا.
هذه المشاهد المؤلمة تكشف مأساة أخرى أعمق من الحادث نفسه: غياب التواصل الرسمي الفعّال مع أسر الضحايا، وترك المواطنين في دوامة الشائعات والخوف دون توضيحات أو تحركات دبلوماسية جدية. ففي الوقت الذي تتحرك فيه الجهات الإيطالية والمالطية بجهود مكثفة للبحث والإنقاذ، يقتصر الدور المصري على بيانات مقتضبة ووعود غير ملموسة، في استمرار لنمط من الجمود الإداري والبيروقراطي في التعامل مع الكوارث الإنسانية.
إيطاليا.. الوجهة المفضلة لمهاجري مصر
تُعد إيطاليا الوجهة الأولى للمهاجرين غير الشرعيين القادمين من مصر، حيث أصبحت الهجرة عبر البحر المتوسط ظاهرة مألوفة في القرى الريفية الفقيرة.
ووفق بيانات مفوضية اللاجئين، تصدّر المصريون الجنسيات الوافدة إلى إيطاليا في بداية عام 2023، إذ شكّلوا نحو 22% من المهاجرين الواصلين عبر البحر. أما وزارة الداخلية الإيطالية فقد أشارت إلى تراجع الترتيب لاحقًا إلى المركز الخامس بنسبة 7% من الإجمالي العام، فيما أفادت المفوضية بأن 72% من المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى إيطاليا انطلقوا من ليبيا، وهو ما يعكس حجم الدور المصري غير المباشر في هذه الظاهرة.
هذه الأرقام، رغم برودها الإحصائي، تمثل إدانة واضحة للسياسات الحكومية التي فشلت في خلق بدائل آمنة للشباب. فبدلاً من الاستثمار في التعليم الفني وتوفير فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة، تكتفي السلطات بحملات دعائية سطحية لا تصمد أمام واقع البطالة واليأس. ومع كل حادث جديد، تتجدد الأسئلة نفسها: إلى متى ستظل الحكومة تكتفي بالتصريحات دون حلول حقيقية؟
الخطر الحقيقي ليس البحر
إن فاجعة أبو شلبي ليست حادثًا استثنائيًا، بل نتاجًا مباشرًا لسياسات اقتصادية واجتماعية مهترئة لا تضع المواطن في أولوياتها. استمرار حوادث الغرق يعني ببساطة أن “الخطر الأكبر” ليس البحر، بل نظام إداري عاجز عن منح الشباب الأمل في وطنهم.
إن الحكومة المصرية مطالَبة اليوم قبل الغد بوضع سياسات تنموية شاملة تُعيد بناء علاقة الشباب بوطنهم، وتوفر لهم سبل العيش الكريم، حتى لا يكون البحر خيارهم الوحيد للنجاة من واقع بلا أفق.