في ظل أجواء عالمية مشحونة بالتوترات الجيوسياسية والاقتصادية، وعودة شبح الركود التضخمي إلى الواجهة، تتجه أنظار المستثمرين مجددًا نحو الملاذات الآمنة، وعلى رأسها الذهب، الذي قفز إلى مستويات غير مسبوقة عند 4250 دولارًا للأونصة، محققًا ارتفاعًا تجاوز 60% منذ مطلع العام، بحسب تقرير موسّع لوكالة بلومبيرغ.

هذه القفزة التاريخية في أسعار الذهب لم تأتِ من فراغ، بل تعكس بحسب الوكالة "اندفاعًا عالميًا قويًا نحو الأمان المالي" في ظل تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم، واستمرار الحرب التجارية التي تتخذ أشكالًا جديدة تتجاوز الرسوم الجمركية إلى مجالات التقنية والطاقة وسلاسل الإمداد.
 

ذهب يلمع وسط العواصف
ورغم التراجع الطفيف يوم الجمعة الماضي، فإن المعدن النفيس لا يزال يحافظ على مكاسبه الاستثنائية. أما الفضة، فقد شاركت الذهب بارتفاعات حادة، بعدما لامست 54.5 دولارًا للأونصة قبل أن تتراجع بنحو 6% في أكبر انخفاض يومي منذ ستة أشهر، نتيجة عمليات جني أرباح مؤقتة.

وتشير بلومبيرغ إلى أن البنوك المركزية حول العالم كانت من أبرز المشترين خلال الأشهر الماضية، إلى جانب تدفقات قوية إلى الصناديق المتداولة المدعومة بالذهب (ETFs)، ما ساهم في تعزيز الأسعار إلى مستويات قياسية، في مشهد وصفته الوكالة بأنه "هروب من الثقة بالعملة إلى الثقة بالمعدن".
 

نمو عالمي هشّ وتحذيرات متزايدة
وفي الجانب الآخر من الصورة، كشف صندوق النقد الدولي عن رفع طفيف في توقعاته للنمو العالمي لعام 2025، مدفوعًا بعوامل مؤقتة مثل زيادة الاستهلاك وتخزين السلع قبل تطبيق رسوم تجارية جديدة.

غير أن التقرير حذّر في الوقت ذاته من "آفاق قاتمة" على المديين القريب والمتوسط، مشيرًا إلى أن هذا التحسن لا يتعدى كونه "انفراجة قصيرة" في ظل ضعف الطلب العالمي وتراجع الاستثمارات.

وتوضح بلومبيرغ أن التجارة العالمية تشهد تحولًا بنيويًا، لا مجرد تباطؤ، مع إعادة رسم التحالفات الاقتصادية وتبدّل موازين القوة في سلاسل التوريد. فبحسب بيانات شركة كلاركسونز البريطانية، تراجعت حركة الشحن عبر المحيط الهادئ بنحو 3%، وهو المسار الذي يمثل العمود الفقري للتجارة بين أميركا والصين، مقابل نمو محدود في المسارات الأخرى نحو أوروبا وجنوب شرق آسيا.
 

آسيا بين التباطؤ والحذر
في الصين، أظهرت البيانات تراجعًا واضحًا في نمو الائتمان خلال سبتمبر نتيجة ضعف الطلب على القروض وتراجع مبيعات السندات الحكومية، ما يعكس حذر الأسر والشركات وتراجع شهية المخاطرة.

أما الهند، فتسجّل مؤشرات مختلفة تمامًا، إذ بلغ التضخم 1.54% فقط، وهو أدنى مستوى منذ ثماني سنوات، ما يمنح البنك المركزي الهندي مساحة للتحرك نحو خفض أسعار الفائدة قريبًا، في محاولة لتحفيز النمو الذي تأثر بالرسوم الأميركية المفروضة على الصادرات الهندية.
 

الولايات المتحدة.. اقتصاد متوتر وتضخم متجدد
على الضفة الأخرى، تعيش الولايات المتحدة حالة من الضبابية الاقتصادية، إذ سجّلت أسعار السلع والخدمات ارتفاعًا جديدًا خلال سبتمبر لتصل إلى أعلى مستوياتها في عامين، وفق بيانات شركة أوبن براند.

ويحذر محللون من أن الإغلاق الجزئي للحكومة الأميركية قد يؤثر على دقة البيانات الاقتصادية، خصوصًا أن نحو 60% من إحصاءات الأسعار تعتمد على الزيارات الميدانية المباشرة.

أما من حيث السياسة النقدية، فيبدو أن الاحتياطي الفدرالي يتجه إلى خفض أسعار الفائدة مجددًا في أكتوبر وديسمبر المقبلين، غير أن الانقسام داخل مجلس الفدرالي ما زال قائمًا حول مدى استمرار هذا التوجه في ظل عودة الضغوط التضخمية.
 

أوروبا والاعتماد على الثروة السيادية
في أوروبا، تواجه الحكومات معضلة مزدوجة: التضخم المرتفع وتكاليف الاقتراض الصاعدة.

وزيرة المالية البريطانية رايتشل ريفز أكدت أمام مجلس الوزراء أن "ارتفاع كلفة الاقتراض سيقيد قدرة الحكومة على دعم الخدمات العامة"، في وقت تخطط فيه النرويج لاستخدام جزء أكبر من صندوقها السيادي الضخم البالغ تريليوني دولار لتمويل موازنتها المقبلة، في خطوة تعكس اعتماد القارة على مدخرات الماضي لمواجهة تحديات الحاضر.
 

الأسواق الناشئة.. البحث عن بدائل
وفي ظل التوتر الأميركي الصيني، تتجه الأسواق الناشئة إلى إعادة التموضع. فكلٌّ من البرازيل والهند يسعيان لبناء شراكة تجارية جديدة بقيمة 12.1 مليار دولار، بهدف تقليل الاعتماد على السوق الأميركية، التي أصبحت أقل استقرارًا في ظل السياسات الحمائية التي يتبعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وتشير بلومبيرغ إلى أن هذا التحول يعكس تحرّكًا أوسع لإعادة توزيع النفوذ الاقتصادي نحو الجنوب العالمي، حيث تبحث الدول النامية عن تحالفات مرنة بعيدًا عن مراكز القرار التقليدية في واشنطن وبروكسل وبكين.
 

الذهب.. لغة مالية لا تفقد معناها
في ختام تحليلها، ترى بلومبيرغ أن الذهب عاد ليؤكد مكانته كأداة دفاعية كلاسيكية في عالم تتزايد فيه التقلبات والشكوك.
فمع تراجع الثقة في استقرار السياسات النقدية وتقلص خيارات صناع القرار، يبقى المعدن الأصفر، كما تصفه الوكالة، "اللغة المالية الوحيدة التي لا تزال تُفهم في عالم يعيد صياغة نفسه تحت ضغط الرسوم الجمركية والتنافس الإستراتيجي".