زيارة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي إلى بروكسل في أكتوبر 2025 لم تكن محطة دبلوماسية طبيعية، بل محاولة جديدة لتبييض صورة نظامٍ غارق في القمع والانهيار الاقتصادي.
ففي الوقت الذي تُغلق فيه السجون على آلاف المعتقلين وتتصاعد معدلات الفقر والانتحار، يسعى النظام لتقديم نفسه أمام أوروبا كحليف ضروري في ملفات الطاقة والهجرة، متجاهلًا الكارثة الحقوقية التي يعيشها الداخل المصري.
تلميع سياسي تحت غطاء “الشراكة الإستراتيجية”
تُروّج القاهرة للزيارة على أنها “قمة شراكة” تاريخية، بينما يراها المراقبون صفقة نفوذ مقابل صمت.
السيسي، الذي يعتمد على الدعم الأوروبي لتثبيت سلطته، يسعى لتوظيف الزيارة كغطاء سياسي أمام تصاعد الانتقادات المحلية والدولية لملف المعتقلين وحرية الصحافة.
الاتحاد الأوروبي من جانبه يبحث عن موطئ قدم في شرق المتوسط يؤمّن له الغاز والحدود، ولو على حساب حقوق الإنسان والديمقراطية.
اقتصاد منهار ووعود زائفة بالاستثمار
تتحدث الدعاية الرسمية عن “منتدى اقتصادي موسّع” ووعود استثمارية كبرى، لكن الواقع أن الاقتصاد المصري يعيش واحدة من أسوأ مراحله منذ عقود.
الديون الخارجية تجاوزت (165) مليار دولار، والجنيه فقد أكثر من نصف قيمته في عامين، والاستثمار الأجنبي المباشر يتراجع بشكل مستمر.
يستخدم النظام هذه الزيارات لالتقاط الصور وإصدار بيانات وهمية عن “النمو”، بينما المواطن المصري يواجه ارتفاع الأسعار ونقص الوظائف وانعدام الأمل.
إنها سياسة التجميل الخارجي بدل الإصلاح الداخلي.
الهجرة كورقة مساومة لا إنجاز
يدّعي النظام أنه “أوقف الهجرة غير الشرعية”، لكن الحقيقة أن مصر تحوّلت إلى حارس حدود بالوكالة عن أوروبا.
يتلقى النظام تمويلات ضخمة من بروكسل مقابل تشديد الرقابة الأمنية على البحر المتوسط، بينما يواصل إهمال الأسباب الحقيقية للهجرة: البطالة والفقر والقمع السياسي.
المهاجرون لا يتوقفون لأن السواحل مغلقة، بل لأن الداخل المصري صار أكثر قسوة من البحر نفسه.
إنها شراكة تقوم على شراء الصمت الأوروبي بالمال والابتزاز السياسي.
حقوق الإنسان… الثمن المسكوت عنه
تزامنت الزيارة مع بيانات غاضبة من منظمات دولية بينها الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، التي اعتبرت اللقاء الأوروبي مع السيسي “تبييضًا للانتهاكات”.
لم تُبدِ أي مؤسسة أوروبية استعدادًا لربط التعاون الاقتصادي بإفراجٍ حقيقي عن المعتقلين، رغم أن أكثر من 60 ألف سجين سياسي ما زالوا خلف القضبان.
بروكسل اختارت المصالح على المبادئ، والسيسي استغل المشهد ليظهر كـ“زعيم إقليمي” بينما يواصل خنق المجتمع المدني والإعلام في الداخل.
دور مشبوه في ملفات غزة والسودان
يحاول السيسي تقديم نفسه كـ“وسيط إقليمي” في أزمات غزة والسودان، بينما يرى مراقبون أن هذا الدور ليس سوى محاولة لابتزاز أوروبا سياسيًا وماليًا.
فالنظام الذي فشل في حماية حدوده الجنوبية، وأغلق معبر رفح أمام الجرحى، يستخدم هذه الملفات لكسب شرعية دولية وموارد إضافية، في وقتٍ يعجز فيه عن تأمين حياة كريمة للمصريين داخل بلاده.
الدعم الأوروبي لمصر في هذه الملفات لا يعكس ثقة بقدرة النظام، بل خوفًا من انهياره المفاجئ وما قد يترتب عليه من فوضى في الإقليم.
نظام يعيش على الدعم الخارجي
زيارة بروكسل تكشف حقيقة النظام المصري: سلطة بلا قاعدة شعبية تعتمد على الخارج للبقاء.
في الداخل، القمع يسكت الأصوات؛ وفي الخارج، تُباع أوراق الهجرة والطاقة لضمان الشرعية السياسية.
لم يعد النظام قادرًا على الإصلاح أو الحوار، بل فقط على المقايضة: الغاز مقابل الصمت، والمعتقلون مقابل الاستثمارات، والسيادة مقابل البقاء في الحكم.
وفي نهاية المطاف، لم تكن زيارة السيسي إلى بروكسل “قمة شراكة” كما وصفتها بيانات الحكومة، بل قمة نفاق سياسي جمعت بين سلطةٍ قمعية تبحث عن الغطاء، وأوروبا خائفة من الهجرة والفوضى.
فبينما تُرفع في بروكسل شعارات “الاستقرار والتعاون”، تُرفع في شوارع القاهرة لافتات الغلاء والبطالة واليأس.
إنها زيارة تُذكّر بأن النظام في مصر لا يعيش بدعم شعبه، بل بفضل شبكة مصالحٍ دولية تُبقيه على قيد الحياة مقابل صمته وولائه، وكلما ازداد التواطؤ الخارجي، ازداد القهر في الداخل.