يشهد قطاع النسيج في مصر أزمة عميقة غير مسبوقة، بعد التراجع الكبير في زراعات القطن التي هبطت إلى نحو 123 ألف فدان فقط، مقارنة بما يزيد عن مليوني فدان كانت تُزرع في العقود الماضية.
هذا الانحدار الخطير لا يعني مجرد تراجع في محصول زراعي، بل يمثل انهياراً متكاملاً في إحدى الصناعات الوطنية التي كانت تمثل فخر الاقتصاد المصري لعقود طويلة. ومع استمرار سياسات النظام الحالي برئاسة عبد الفتاح السيسي، يبدو أن مصر تفقد تدريجياً مكانتها كدولة رائدة في زراعة وصناعة القطن والنسيج.
تراجع زراعة القطن وتداعياته
القطن المصري، الذي اشتهر عالمياً بطول تيلته وجودته الفائقة، بات اليوم مهدداً بالزوال نتيجة تراجع المساحات المزروعة وغياب الدعم الحكومي الكافي للمزارعين. فبينما كانت مصر تنتج ما يكفي لتغطية احتياجات مصانع الغزل والنسيج، أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الاستيراد من الخارج لتشغيل مصانعها.
هذا التراجع لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية فاشلة شجّعت على زراعة محاصيل بديلة ذات عائد سريع على حساب القطن، دون أن تضع خطة لتعويض خسائر الفلاحين أو دعم الصناعة المحلية. وهكذا، بات الفلاح المصري في مواجهة أعباء مالية متزايدة، بينما تتراجع جودة الصناعات النسيجية التي كانت تعتمد على القطن المحلي.
فشل السياسات الصناعية في عهد السيسي
منذ استيلاء السيسي على الحكم، لم تنجح الدولة في وضع استراتيجية متكاملة تربط بين الزراعة والصناعة. فقد تم تفكيك منظومة الدعم الزراعي تدريجياً، وأُغلقت الجمعيات التعاونية التي كانت توفر البذور والأسمدة والإرشاد الفني للمزارعين.
وبينما تحدث السيسي مراراً عن خطط لتطوير مصانع الغزل والنسيج، فإن هذه الخطط بقيت على الورق. المشاريع المعلن عنها لم تواكب حجم الانهيار في القطاع، كما أن الاعتماد على الواردات الأجنبية بات السمة الغالبة في مصانع الدولة، وهو ما أفقد المنتج المصري ميزته التنافسية.
لقد تحولت “رؤية 2030” إلى مجرد شعارات في ظل غياب تنفيذ فعلي، وباتت الصناعة الوطنية أسيرة قرارات مرتجلة، لا تخدم سوى مصالح ضيقة على حساب العمال والمزارعين والمستهلكين.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة
انعكست أزمة القطن والنسيج مباشرة على سوق العمل، إذ تراجعت فرص التشغيل في القرى والمناطق الصناعية التي كانت تعتمد على هذه السلسلة الإنتاجية. آلاف الأسر التي كانت تعيش على زراعة القطن وجني محصوله فقدت مصدر رزقها، كما شهدت مصانع الغزل والنسيج تراجعاً في معدلات الإنتاج، ما أدى إلى تسريح العمال وتدهور أوضاعهم المعيشية.
النتيجة أن مصر تخسر ليس فقط موردًا اقتصاديًا مهمًا، بل ركيزة اجتماعية كانت تمنح ملايين الأسر دخلاً ثابتاً. إن تهميش هذا القطاع الاستراتيجي يُعد كارثة قومية بكل المقاييس، تُضاف إلى سجل السياسات التي تجاهلت مصالح المواطنين لحساب صفقات مؤقتة واستثمارات لا تصب في الاقتصاد الحقيقي.
السيسي يتحمل المسؤولية المباشرة
لا يمكن فصل هذه الأزمة عن سياسات النظام الحاكم الذي أهمل الزراعة والصناعة معاً. فبدلاً من دعم الفلاحين وتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار عادلة، اختارت الحكومة تقليص الدعم ورفع أسعار الوقود والكهرباء، ما جعل كلفة الزراعة مرتفعة إلى حدٍ غير مسبوق.
السيسي الذي يقدّم نفسه كمهندس للتنمية، يتحمّل المسؤولية الكاملة عن انهيار منظومة القطن والنسيج، بعد أن تركها تواجه السوق دون حماية أو تخطيط. بل إن الحكومة بدت منشغلة بمشروعات شكلية في العاصمة الإدارية بينما تتآكل الأسس الإنتاجية للاقتصاد الحقيقي في الريف والمصانع.
لقد فشلت السلطة في الحفاظ على واحدة من الصناعات التي كانت عنوانًا للهوية المصرية، وتسببت سياساتها في تحويل مصر من دولة مصدّرة للقطن إلى مستورد يعتمد على الخارج في سلعة كانت يوماً رمزاً لنهضتها.
وفي النهاية فتراجع زراعة القطن في مصر ليس مجرد ظاهرة زراعية عابرة، بل هو دليل واضح على فشل الإدارة الاقتصادية في عهد السيسي. ومع استمرار هذا النهج، فإن البلاد ماضية نحو فقدان صناعاتها الاستراتيجية الواحدة تلو الأخرى، بدءاً من النسيج وصولاً إلى الصناعات التحويلية الأخرى.
مستقبل القطن والنسيج في مصر مرهون بقرار سياسي جريء يُعيد الاعتبار للمزارع والعامل، ويعيد للدولة دورها في حماية الإنتاج الوطني، بعيداً عن الارتجال والشعارات الفارغة.
وحتى يتحقق ذلك، ستبقى أزمة القطن عنواناً لسياسات فاشلة دفعت مصر إلى حافة خسارة هويتها الصناعية والزراعية، في ظل حكم جعل من “الإنجازات الوهمية” بديلاً عن التنمية الحقيقية.

