في قلب الساحل الشمالي لمحافظة الإسكندرية، يعيش أهالي منطقة كينج مريوط مأساة متكررة باتت جزءاً من حياتهم اليومية. فمياه الصرف الصحي لم تعد تقتصر على الشوارع أو الأراضي المنخفضة، بل تسربت إلى داخل المنازل، لتغرق الأرضيات وتنشر الروائح الكريهة وتحول الحياة إلى جحيم لا يُطاق. وعلى الرغم من تكرار البلاغات والشكاوى إلى الجهات المعنية، إلا أن الأزمة ما زالت تراوح مكانها وسط وعودٍ رسمية لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
صوت الأهالي الغارق في الصمت
يتحدث السكان بمرارة عن معاناتهم التي طالت، فيقول أحدهم في تصريح لموقع شكاوى مصرية: «لقد أبلغنا المسؤولين أكثر من مرة، حتى أننا نقلنا شكاوانا إلى كل الجهات، ولكن لم يتحرك أحد لإنقاذنا». وفي تقرير نشره موقع اليوم السابع عام 2020، ظهرت صور ومقاطع توثّق تراكم مياه الصرف ومخلفاتها في شوارع كينج مريوط، بينما يُجبر السكان على السير وسط المياه الملوثة للوصول إلى منازلهم.
وفي السنوات الأخيرة، أظهرت بيانات رسمية أن شركة الصرف الصحي بالإسكندرية تلقت خلال شهر سبتمبر 2024 أكثر من ثلاثة آلاف بلاغ بطفح مياه الصرف، وكان نصيب المناطق الغربية منها هو الأعلى. هذه الأرقام تكشف عن حجم الكارثة وتؤكد أن المشكلة لم تعد استثنائية بل أصبحت ظاهرة مزمنة.
بنية تحتية متهالكة وجغرافيا صعبة
تُعزى جذور الأزمة إلى تهالك البنية التحتية لشبكات الصرف الصحي التي لم تشهد أي تطوير حقيقي منذ عقود. فالشبكات القديمة تعاني انسدادات متكررة بسبب تراكم المخلفات وضعف الصيانة. وتزيد الطبيعة الجغرافية للمنطقة من تعقيد الوضع، إذ تقع كينج مريوط في مناطق منخفضة قريبة من بحيرة مريوط، ما يجعلها أكثر عرضة لتجمع المياه سواء الناتجة عن الأمطار أو التسرب من الشبكات.
ورغم وجود خط ساخن لتلقي البلاغات، فإن معظم الأهالي يؤكدون أن الاستجابة بطيئة للغاية، وأن التحركات الميدانية تأتي بعد فوات الأوان أو لا تحدث إطلاقاً في بعض الأحيان، مما يزيد حالة الغضب واليأس بين السكان.
كارثة صحية وبيئية تلوح في الأفق
الأزمة لا تتوقف عند حدود الإزعاج أو المشهد غير الحضاري، بل تمتد لتشكّل خطراً مباشراً على صحة السكان. فالمياه الملوثة التي تغمر الشوارع والمنازل تُعد بيئة خصبة لتكاثر الحشرات والبعوض، وتزيد احتمالات الإصابة بالأمراض الجلدية والتنفسية. كما أن هذه المياه قد تتسرب إلى الآبار والمياه الجوفية، مسببة تلوثاً طويل الأمد يصعب معالجته.
وفي ظل هذا الواقع، يعيش السكان في خوف دائم على أطفالهم وصحتهم. بعضهم اضطر إلى مغادرة منزله مؤقتاً، بينما يعيش آخرون وسط المياه العفنة التي تخنق المكان. ومع غياب الحلول الجذرية، تتضاعف المخاطر البيئية يوماً بعد يوم.
تأثير اقتصادي واجتماعي مدمر
لم تقتصر آثار الأزمة على الصحة فقط، بل امتدت لتطال الحياة الاقتصادية والاجتماعية في كينج مريوط. فقد تراجعت قيمة العقارات بشكل كبير، وأصبحت المنطقة تُعرف إعلامياً بـ«منطقة الصرف الغارق»، ما جعل المستثمرين يعزفون عنها تماماً. كثير من السكان يرون أن مناطقهم تُعامل كمناطق من الدرجة الثانية، وأن الخدمات الأساسية لا تصل إليهم إلا بعد فوات الأوان.
وفي مقطع مصور نُشر على يوتيوب، قال أحد الأهالي بصوت متهدّج: «نحن لا نطلب شيئاً كبيراً، فقط نريد أن نعيش في بيوت نظيفة خالية من مياه المجاري. هل هذا كثير؟». الفيديو ذاته يوثق مشاهد مأساوية لشوارع غارقة ومنازل غمرتها المياه، في غيابٍ تام لأي تحرك رسمي.
https://www.youtube.com/watch?v=70Tj6r2UqdY
وعود حكومية بطيئة التنفيذ
ورغم وعود الحكومة المتكررة بتطوير شبكات الصرف، فإن التنفيذ على أرض الواقع ما زال بطيئاً للغاية، وغالباً ما يقتصر على حلول مؤقتة مثل سحب المياه بالصهاريج دون معالجة السبب الحقيقي للمشكلة. ويؤكد خبراء ومتابعون أن غياب التخطيط الوقائي هو أحد أبرز أسباب استمرار الكارثة، فالحكومة لا تتعامل مع الأزمة من منظور استراتيجي شامل، بل عبر ردود فعل متفرقة بعد كل موجة غضب أو بلاغ جماعي.
أما شركات المياه والصرف الصحي، فتكتفي في الغالب بإصدار بيانات مطمئنة عن «السيطرة على الموقف»، دون خطوات ملموسة يشعر بها المواطن. ويؤكد كثير من السكان أن البلاغات تُسجَّل ولا تُتابع، في ظل غياب واضح للرقابة والمساءلة الإدارية.
أزمة تحتاج إلى إرادة حقيقية
ما يحدث في كينج مريوط ليس حادثاً عارضاً، بل هو انعكاس لغياب التخطيط المتكامل وإهمال المناطق الطرفية التي لا تحظى بالأولوية في مشاريع الدولة. فالأزمة ليست فنية فقط، بل هي إنسانية واجتماعية أيضاً، تعكس فجوة كبيرة بين وعود التنمية وواقع الناس اليومي. ومع استمرار تجاهل صرخات المواطنين، تتزايد معاناتهم يوماً بعد يوم حتى باتت الصيحات تُطلق من بين جدران المنازل الغارقة في مياه الصرف.
إنها قضية تحتاج إلى قرار حقيقي وشجاعة في التنفيذ، قبل أن تتحول كينج مريوط إلى منطقة منكوبة بيئياً وصحياً. فالحل لن يكون بتصريحات أو زيارات عابرة، بل بإعادة بناء شبكة الصرف من جذورها، وتوفير رقابة مستمرة تضمن للمواطن حقه في بيئة نظيفة وآمنة.


 
						
											 
 
					     
 
					     
									 
									 
									