"ماعت" (Ma'at) ليست مجرد كلمة في تاريخ مصر القديمة، بل هي الجوهر الأخلاقي والقانوني الذي قام عليه أول نظام دولة متكامل في التاريخ. إنها تمثل الحقيقة، والعدالة، والنظام الكوني، وتجسدت في "الاعترافات السلبية" الـ 42، التي كانت بمثابة ميثاق شرف للحاكم والمحكوم.

 

كانت هذه التعاليم تفرض على الفرعون واجب تطبيق العدل وحماية الضعيف. اليوم، وفي ظل حكم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، يرى كثيرون أن هذا العهد القديم قد تم خيانته، وأن مصر تعيش في زمن "إسفت" (Isfet)، رمز الفوضى والظلم، حيث تحولت تعاليم العدالة إلى مجرد خلفية لـ "الرقص والتطبيل" في الاحتفالات الرسمية.

 

ماعت في الميزان: العدالة في مواجهة القمع والفساد

 

إن التناقض الصارخ بين مبادئ ماعت والواقع السياسي المعاصر يظهر جلياً عند مقارنة "الاعترافات السلبية" بانتهاكات النظام الموجهة إليه. لقد نادت ماعت بمبدأ "أنا لم أقتل رجالا أو نساء"، وهو ما يقابله اليوم اتهامات للنظام بتصفية معارضين خارج إطار القانون، ووقوع ضحايا في السجون وأماكن الاحتجاز نتيجة الإهمال أو التعذيب، في تجاهل تام لحرمة النفس التي قدستها الحضارة المصرية القديمة.

 

كما أكدت ماعت على مبدأ "أنا لم أسرق"، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع اتهامات بتفشي الفساد في مؤسسات الدولة، وتوجيه الموارد نحو مشاريع غير ذات أولوية، وحماية شخصيات متورطة في قضايا فساد مالي وإداري، مما يمثل خرقاً صريحاً لأولى قواعد النزاهة.

 

أما مبدأ "أنا لم أعتدي على أحد"، فقد تم الدوس عليه بحملات الاعتقال الواسعة للمعارضين والنشطاء والصحفيين، وتكميم الأفواه، وسجن عشرات الآلاف في قضايا سياسية، مما يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان. إن القمع والاعتداء على الحريات هو النقيض المباشر لمفهوم "ماعت" الذي يضمن لكل فرد حقه في العيش بسلام وكرامة.

 

ولعل أخطر ما يواجه الشعب المصري اليوم هو انتهاك مبدأ "أنا لم أخطف لقمة من فم طفل". ففي الوقت الذي نادت فيه ماعت بحماية الفقراء، نجد سياسات اقتصادية أدت إلى تدهور معيشة الغالبية، وارتفاع جنوني في الأسعار، وتجويع فعلي للطبقات الفقيرة.

 

هذا التجويع يتزامن مع عملية بيع أصول البلد السيادية تحت مسمى "الاستثمار"، وهو ما يمثل انتهاكاً صريحاً لمبدأ "أنا لم أسرق أرض أحد"، ويعد خيانة للعهد الذي يربط الحاكم بالأرض والشعب. إن النظام الذي يدعي أنه وريث الفراعنة، يتناسى أن واجب الفرعون الأول كان إقامة ماعت، لا إقامة المشاريع العملاقة على حساب قوت الشعب وحريته.

 

الرقص على أنقاض العدالة: استغلال التاريخ لتبرير الفشل

 

إن استحضار رموز الحضارة المصرية القديمة في الخطاب الإعلامي والاحتفالات لا يهدف إلى إحياء قيمها، بل إلى تخدير الوعي العام وصرف الانتباه عن الأزمات الحقيقية. لقد تحولت ماعت، رمز النظام والعدل، إلى مجرد أداة دعائية يتم توظيفها في فعاليات "الرقص والتطبيل" التي تمجد الحاكم، بينما يتم تجاهل جوهرها المتمثل في المساءلة والشفافية. فما قيمة الحديث عن "النظام" و"التوازن" الكونيين، إذا كان النظام الاجتماعي والسياسي يعاني من اختلال واضح في موازين العدل والحقوق؟

 

متى تعود ماعت؟

 

إن ماعت هي العهد الأزلي الذي يطالب به المصريون اليوم، وهو عهد لا يمكن شراؤه بالاحتفالات أو تجميله بالخطابات. إن النظام الذي يقمع شعبه، ويقتل معارضيه، ويحمي فاسديه، ويبيع أصول بلاده، ويجوع مواطنيه، هو نظام يعيش في حالة "إسفت" كاملة، وهو نقيض كل ما مثلته الحضارة المصرية العظيمة.

 

إن الطريق الوحيد لاستعادة التوازن والنظام الحقيقيين (ماعت) هو التوقف عن "الرقص والتطبيل"، والبدء في تطبيق المبادئ التي نادت بها ماعت قبل آلاف السنين: العدل، والحقيقة، والإنصاف، وإعادة الاعتبار لكرامة الإنسان وحريته. إن صرخة الشعب المصري اليوم هي صرخة من أجل ماعت، في وجه نظام أدار ظهره لأول دستور للعدالة في التاريخ.