مع اقتراب نهاية عام 2025، تجد مصر نفسها أمام مشهد إقليمي شديد التعقيد، تتداخل فيه الأزمات الأمنية والاقتصادية مع إعادة رسم خرائط النفوذ في محيطها الحيوي. فالجبهات المفتوحة تحيط بالقاهرة من كل اتجاه: جنوبًا في السودان والصومال وإثيوبيا واليمن، وشرقًا عند غزة والبحر الأحمر، وغربًا عبر ليبيا، وشمالًا في حوض شرق المتوسط. ويجمع خبراء على أن هذا المشهد لم يتشكّل عفويًا، بل تشترك في صناعته قوى إقليمية ودولية، في مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي والإمارات، بينما تبدو مصر أقرب في حساباتها الراهنة إلى السعودية وتركيا.

 

في هذا السياق، جاء اعتراف الاحتلال الإسرائيلي بإقليم «أرض الصومال» الانفصالي، المطل على خليج عدن، ليضيف حلقة جديدة إلى سلسلة الضغوط المفروضة على مصر.

 

ويرى متحدثون أن هذه الخطوة تمثل إعادة هندسة لموازين النفوذ في القرن الأفريقي، وتهدف إلى تقليص قدرة القاهرة على التأثير في مدخل البحر الأحمر، والضغط عليها في ملفات المياه والأمن القومي.

 

"سد نهضة" على البحر الأحمر

 

تتعامل القاهرة مع الاعتراف الإسرائيلي بوصفه ما يشبه «سد نهضة جديد»، لكن هذه المرة على البحر لا على النهر. فالخطوة تُعد، من المنظور المصري، إشارة ضوء أخضر لمنح إثيوبيا منفذًا بحريًا وقاعدة عسكرية على خليج عدن، ما يعني عمليًا حصارًا استراتيجيًا لمصر من الجنوب، وتعاظم نفوذ إسرائيلي–إثيوبي مشترك عند مضيق باب المندب، المدخل الجنوبي لقناة السويس.

 

ولا تتوقف المخاوف عند البعد البحري، بل تمتد إلى الأمن المائي، في ظل الصراع القائم حول مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي. كما تثير الخطوة قلقًا مصريًا إضافيًا لأنها جاءت بعد أيام من إعلان صفقة غاز ضخمة بين مصر وإسرائيل بقيمة 35 مليار دولار، ما فتح باب التكهنات حول صفقات سياسية أوسع، من بينها سيناريوهات تهجير سكان غزة إلى الإقليم مقابل مكاسب إقليمية.

 

وتخشى القاهرة كذلك من أن يشكل الاعتراف سابقة قد تُستنسخ لاحقًا، عبر الاعتراف بكيانات انفصالية أخرى، مثل كيان محتمل في غرب السودان تديره قوات «الدعم السريع». لذلك سارعت الخارجية المصرية إلى إدانة الخطوة فور صدورها، ووصفتها بأنها مساس بسيادة الصومال ووحدته، وتهديد مباشر لاستقرار القرن الأفريقي.

 

رفض دولي واسع وغياب إماراتي لافت

 

عقب الإعلان الإسرائيلي، صدر بيان مشترك وقّعت عليه 20 دولة، بينها مصر والسعودية وتركيا والأردن والجزائر وقطر والصومال والسودان واليمن، رفضت فيه الاعتراف بـ«أرض الصومال». غير أن الغياب الإماراتي عن البيان أثار تساؤلات، خاصة في ظل اتهامات متكررة لأبوظبي بلعب دور محوري في تغذية بؤر التوتر في الصومال والسودان واليمن، وقبلها ليبيا وغزة.

 

ويرى مراقبون أن هذا الرفض العربي والإسلامي والأفريقي يمثل ورقة ضغط مهمة بيد القاهرة، لكنها تحتاج إلى تفعيلها ضمن تحرك دبلوماسي أوسع، يتجاوز البيانات إلى بناء تحالفات صلبة قادرة على كبح مسار إعادة رسم النفوذ في البحر الأحمر.

 

عجز سياسي وإرادة مقيّدة

 

في قراءته لتداعيات الاعتراف الإسرائيلي، قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عبد الله الأشعل إن مصر تدعم بوضوح بقاء الصومال دولة موحدة ذات حكومة مركزية، وهو ما يبرز أهمية اتفاقيات التعاون العسكري بين القاهرة ومقديشو. واعتبر أن الخطوة الإسرائيلية يمكن استغلالها لعزل تل أبيب أفريقيًا، عبر اللجوء إلى الاتحاد الأفريقي، رغم تشكيكه في قدرة النظام المصري الحالي على خوض معركة دبلوماسية فاعلة، خاصة مع احتمالات اعتراف أمريكي لاحق بالإقليم.

 

ويرى الأشعل أن إسرائيل تعتمد في تحركاتها على دعم أمريكي وبعض الداعمين العرب، وأن ارتباطات القاهرة الحالية تجعلها عاجزة عن مواجهة تل أبيب أو أبوظبي، وهو ما يحدّ من قدرتها على حماية مصالحها الاستراتيجية. ويضيف أن هذا الفراغ قد تستغله قوى أخرى، مثل تركيا وإيران، لتوسيع نفوذها في القارة الأفريقية، في وقت تعجز فيه مصر عن توظيف عمقها الأفريقي التاريخي، وفقًا لـ"عربي 21".

 

باب المندب في قلب الاستراتيجية الجديدة

 

يتفق السفير عدلي دوس مع الرأي القائل إن التحرك الإسرائيلي جزء من استراتيجية أوسع لتفكيك الدول الإسلامية ومحاصرة القوى الإقليمية الكبرى. ويشير إلى أن حصول إسرائيل أو حلفائها على موطئ قدم في ميناء بربرة سيعني عمليًا تطويق مصر والسعودية وتركيا معًا.

 

ويؤكد دوس أن قدرة مصر على مواجهة هذا المسار محدودة في ظل أزماتها الاقتصادية والأمنية، ومعاهداتها الأخيرة مع إسرائيل، وشراكاتها الوثيقة مع الإمارات. ويرى أن الهدف الحقيقي هو السيطرة على باب المندب، بالتوازي مع الضغط عبر سد النهضة، ما يجعل الحصار الجيوسياسي على مصر متعدد الأبعاد.

 

ويحذر الدبلوماسي المصري من أن هذا المسار لن يتوقف عند الصومال، مرجحًا تحركات لاحقة في غرب السودان وشرق ليبيا، بما يعمّق طوق الحصار حول مصر من الجنوب والغرب والشرق.

 

لماذا «أرض الصومال» مهمة؟

 

يقع إقليم «أرض الصومال» في قلب القرن الأفريقي، ويطل على خليج عدن بساحل يمتد لنحو 850 كيلومترًا. ويُعد ميناء بربرة جوهرة الإقليم، نظرًا لموقعه الاستراتيجي القريب من باب المندب، وكونه أقرب منفذ بحري لإثيوبيا، الدولة الحبيسة.

 

تسيطر شركة «موانئ دبي العالمية» على إدارة الميناء، ويضم الإقليم واحدًا من أطول المدارج الجوية في أفريقيا، ما يجعله قاعدة محتملة للنفوذ العسكري البحري والجوي. كما ترى قوى كبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، في بربرة بديلًا محتملًا لموانئ جيبوتي المكتظة بالقواعد العسكرية، وهو ما يضيف بعدًا دوليًا للتنافس عليه.

 

 

محور القاهرة–الرياض–أنقرة: خيار الضرورة

 

في ضوء هذه التحديات، تتزايد الدعوات داخل مصر لتشكيل تحالف استراتيجي مع السعودية وتركيا. فالدول الثلاث تتقاطع مصالحها في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وتتقارب مواقفها بشأن دعم وحدة السودان، ورفض تفكيك الصومال.

 

ويرى محللون أن مصر تحتاج إلى دعم مالي وسياسي سعودي، وإلى غطاء تقني وعسكري تركي، خصوصًا في مجالات الطائرات المسيرة والتصنيع العسكري، لمواجهة الضغوط المتصاعدة. في المقابل، ترى الرياض في القوة العسكرية المصرية عمقًا استراتيجيًا لا غنى عنه لحماية سواحلها الطويلة على البحر الأحمر، بينما تجد أنقرة في هذا المحور فرصة لتثبيت نفوذها في الصومال وليبيا، وتطبيع مصالحها في شرق المتوسط.

 

وقد عززت المناورات العسكرية المشتركة، والاتفاقيات الدفاعية، والتعاون الصناعي العسكري خلال 2025، ملامح هذا المحور بوصفه قوة ردع إقليمية في مواجهة محاولات تغيير الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر.

 

بين «رئة إسرائيل» والحزام الناري حول مصر

 

على مستوى النقاش العام، اعتبر كتّاب وباحثون أن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال فصل جديد في معركة السيطرة على الممرات المائية. فالبحر الأحمر يُعد رئة استراتيجية للاحتلال، وباب المندب يمثل كابوسًا دائمًا له، خاصة بعد تعطّل ميناء إيلات خلال حرب غزة.

 

ويرى آخرون أن المستفيد الأكبر من الخطوة هو إثيوبيا، وأن وجود نفوذ إسرائيلي عند باب المندب يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن قناة السويس، ومحاولة لمحاصرة الدور الإقليمي المصري. وبينما يحذر بعضهم من «حزام ناري» يشتد حول مصر برًا وبحرًا، يؤكد آخرون أن التحرك المصري–التركي–السعودي بات ضرورة استراتيجية لمواجهة مشروع إعادة رسم النفوذ في أحد أهم شرايين التجارة العالمية.