كشفت وسائل إعلام إسرائيلية، أمس الأحد، أن حكومة الاحتلال قررت تجميد صفقة الغاز الضخمة مع مصر، في خطوة وُصفت بأنها الأكبر منذ بدء التعاون الطاقوي بين الجانبين قبل أكثر من عقد، وسط خلافات سياسية وضغوط أميركية متزايدة.

 

وقال وزير الطاقة في حكومة الاحتلال إيلي كوهين إن وزارته لن تصادق في الوقت الراهن على الاتفاقية، مشيرًا إلى أن أي صفقة تصدير جديدة "يجب أن تضمن المصالح الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية أولًا".

 

وأضاف أن الظروف السياسية الراهنة لا تسمح بإتمام الصفقة، في إشارة إلى التوتر بين القاهرة وتل أبيب على خلفية المفاوضات الجارية لوقف إطلاق النار في غزة.

 

تجميد الصفقة

 

ووفق صحيفة "إسرائيل هيوم"، فإن الصفقة كان يُفترض أن تشمل رفع صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر بنسبة تتجاوز 40%، ما يجعلها أكبر صفقة غاز في تاريخ العلاقات بين الطرفين. وكان من المقرر أن يتم ضخ كميات إضافية من حقل "تمار" و"ليفياثان" عبر خط أنابيب "إيست ميد" الواصل إلى مصر، حيث يُعاد تسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا.

 

إلا أن شركة "شيفرون" الأميركية العملاقة للطاقة، المشغلة للحقل، أبدت انزعاجها من القرار الإسرائيلي، وضغطت على وزارة الطاقة للمضي في المصادقة على الاتفاق، معتبرة أن استمرار التجميد "يضر بسمعة إسرائيل كمورّد موثوق في سوق الطاقة الإقليمي".

 

في المقابل، ذكرت مصادر دبلوماسية لوسائل إعلام أميركية أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا مكثفة على إسرائيل للموافقة على الصفقة، إذ ترى إدارة الرئيس جو بايدن أن تعزيز التعاون الطاقوي مع مصر ضروري للحفاظ على الاستقرار الإقليمي ودعم الاقتصاد المصري الذي يعاني من أزمة وقود وتراجع في احتياطاته من الغاز.

 

ويشير مراقبون إلى أن تجميد الصفقة ليس قرارًا اقتصاديًا بحتًا، بل تحرك سياسي محسوب من جانب "تل أبيب" للضغط على القاهرة، التي تقود وساطة مع قطر وتركيا في اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.

 

ويرى محللون أن إسرائيل تسعى من خلال تعطيل الصفقة إلى إيصال رسالة تحذير لمصر بأن أي تقارب مفرط مع حماس أو تنازلات في المفاوضات قد ينعكس على التعاون الاقتصادي بين البلدين. ويرى الخبير الإسرائيلي في شؤون الطاقة يوسي بار، في تصريحات لصحيفة "غلوبس"، أن قرار كوهين يعكس تسييس قطاع الطاقة في ظل الحرب على غزة، مضيفًا: "إسرائيل تستخدم الغاز كورقة ضغط سياسية، رغم أنه مورد استراتيجي يفترض أن يبقى خارج التجاذبات".

 

ومنذ توقيع اتفاق تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر عام 2019، مثّلت القاهرة منفذًا رئيسيًا لصادرات الطاقة الإسرائيلية إلى أوروبا، بعد أن تحوّلت إلى مركز إقليمي لتسييل الغاز. وقد ازداد التعاون بين الجانبين عقب توقيع "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي يضم إلى جانب مصر وإسرائيل كلًا من اليونان وقبرص وإيطاليا والأردن.

 

لكن التوتر السياسي المتصاعد منذ اندلاع الحرب على غزة، واستمرار الخلاف حول إدارة المعابر والتهدئة، ألقى بظلاله على الملفات الاقتصادية، وفي مقدمتها الغاز والطاقة.

 

التوتر الاقتصادي بين القاهرة وتل أبيب

 

وبحسب التقديرات، فإن تجميد الصفقة الجديدة يحرم إسرائيل من عائدات تصل إلى نحو 15 مليار دولار خلال العقد المقبل، في حين يخسر الجانب المصري فرصة لتأمين كميات إضافية من الغاز اللازم لمحطات الكهرباء والتصدير للأسواق الأوروبية.

 

ويرى مراقبون أن هذا القرار قد يفتح باب التوتر الاقتصادي بين القاهرة وتل أبيب، خاصة إذا استمر الاحتلال في استخدام ملفات التعاون الطاقوي كأداة ضغط سياسية بدلًا من شراكة قائمة على المصالح المتبادلة.

 

على مدى العقدين الماضيين، شهدت العلاقات بين مصر و"إسرائيل" في مجال الطاقة تحولات عميقة، انتقلت من القطيعة والتوتر إلى تعاون اقتصادي متصاعد جعل من الغاز الطبيعي ركيزة أساسية للعلاقات بين البلدين.

 

بدأت ملامح هذا التعاون بالظهور مطلع الألفية، حين كانت مصر تصدّر الغاز إلى إسرائيل عبر خط أنابيب العريش–عسقلان الذي تديره شركة غاز شرق المتوسط (EMG). لكن هذه الاتفاقية انهارت عام 2012 بعد الثورة المصرية وسلسلة تفجيرات طالت الخط في سيناء، ما أدى إلى وقف الإمدادات بالكامل وإنهاء الاتفاق وسط خلافات تجارية وسياسية حادة.

 

غير أن اكتشافات الغاز الضخمة في شرق البحر المتوسط غيّرت المعادلة. فابتداءً من عام 2016، وبعد اكتشاف حقلي "تمار" و"ليفياثان" قبالة السواحل الفلسطينية المحتلة، بدأت "إسرائيل" تسعى إلى تحويل نفسها من مستورد للطاقة إلى مصدر إقليمي، بينما وجدت القاهرة في ذلك فرصة لتأكيد موقعها كمركز إقليمي لتسييل وتصدير الغاز.

 

وفي عام 2018، أُبرمت صفقة تاريخية بين شركة "دولفينوس" المصرية وشركتي "ديليك دريلينغ" الإسرائيلية و"نوبل إنرجي" الأميركية (التي استحوذت عليها لاحقًا شركة "شيفرون")، لتوريد الغاز الإسرائيلي إلى مصر بقيمة 15 مليار دولار لمدة عشر سنوات. كانت تلك أول صفقة من نوعها في تاريخ العلاقات بين البلدين بعد اتفاقية السلام.

 

وبدأ تدفق الغاز فعليًا في يناير 2020 عبر خط أنابيب العريش–عسقلان، في مسار معاكس للاتجاه الأصلي للخط، بحيث ينقل الغاز من الحقول الإسرائيلية إلى منشأتي إدكو ودمياط لتسييله ثم تصديره إلى أوروبا. واعتُبرت الخطوة حينها تتويجًا لعودة الدفء للعلاقات الاقتصادية بين القاهرة وتل أبيب، واعترافًا بدور مصر كمحور رئيسي في منظومة الطاقة الإقليمية.

 

وفي العام ذاته، شاركت مصر و"إسرائيل" إلى جانب اليونان وقبرص وإيطاليا والأردن وفلسطين في تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) الذي يتخذ من القاهرة مقرًا له، بهدف تنسيق سياسات الإنتاج والتصدير وبناء شبكة مصالح مشتركة في المنطقة، برعاية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

 

أوراق ضغط متبادلة

 

لاحقًا، تصاعد التعاون بعد توقيع اتفاقية ثلاثية في يونيو 2022 بين مصر و"إسرائيل" والاتحاد الأوروبي لتوريد الغاز الإسرائيلي عبر البنية التحتية المصرية إلى القارة الأوروبية، في ظل أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. ووصفت المفوضة الأوروبية للطاقة، كادري سيمسون، الاتفاق بأنه "خطوة استراتيجية لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي".

 

وبحلول عام 2023، أصبحت مصر المنفذ الرئيس لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، حيث يُعاد تسييله في منشآتها ويُعاد تصديره، مما وفر لتل أبيب مكاسب مالية وسياسية كبيرة، مقابل حصول القاهرة على رسوم مرور وتسييل واستفادة من فائض الطاقة.

 

لكن مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تعرض هذا التعاون لهزات متتالية. فقد أُغلقت بعض خطوط الإمداد مؤقتًا لأسباب أمنية، وعلّقت شركات الطاقة عملياتها في حقل "تمار" لفترة وجيزة، كما تصاعدت الانتقادات داخل إسرائيل بشأن اعتمادها على منشآت مصرية في ظل التوتر السياسي بين البلدين.

 

ويرى خبراء الطاقة أن العلاقات الغازية بين القاهرة وتل أبيب أصبحت اليوم تتجاوز الطابع التجاري البحت، إذ تمثل ورقة ضغط متبادلة في الملفات السياسية والأمنية، خاصة في ظل الوساطة المصرية المستمرة في ملف غزة.

 

وبينما تعتبر مصر الغاز الإسرائيلي جزءًا من استراتيجيتها للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، ترى إسرائيل في مصر شريكًا لوجستيًا لا غنى عنه لكنها تسعى لتوظيف هذا التعاون سياسيًا كلما احتدمت الأزمات في المنطقة، كما حدث مؤخرًا مع قرار تجميد الصفقة الجديدة.