في الوقت الذي أنفقت فيه الدولة المصرية مليارات الجنيهات على إنشاء المتحف المصري الكبير، يطل الإعلامي أحمد موسى ليطالب بتدريس “لغة الحضارة المصرية القديمة” في المدارس وتنظيم رحلات للطلاب إلى المتحف، في محاولة جديدة لصناعة زخمٍ إعلامي يُغطي على فشل رسمي في جذب الزوار الحقيقيين، رغم أن المشروع قُدم منذ سنوات على أنه “أكبر متحف في العالم” وواجهة مصر الحضارية الحديثة.
لكن الواقع يشير إلى أن الأرقام لا تتحدث بنفس النغمة الاحتفالية التي يرددها الإعلام الرسمي، وأن ما يجري اليوم ليس سوى استكمالٍ لحالة “التجميل السياسي” لمشاريع تكلّف المليارات دون عائد فعلي على المواطن أو الدولة.
أحمد موسى يطالب بتنظيم رحلات للطلاب إلى المتحف المصري الكبير#صدى_البلد#أحمد_موسى#المتحف_المصري_الكبير pic.twitter.com/GytwLJk8Hl
— صدى البلد (@baladtv) November 2, 2025
الإنفاق الملياري على مشروع متعثر جماهيرياً
بحسب البيانات الرسمية وتقارير دولية، بلغت تكلفة إنشاء المتحف المصري الكبير ما يزيد على مليار دولار أمريكي، بتمويل من قروض يابانية واتفاقيات شراكة مع مؤسسات أجنبية. وبعد أكثر من عقدين من وضع حجر الأساس في 2002، تم افتتاحه أخيراً في أجواء احتفالية ضخمة.
غير أن الملاحَظ أن الدولة لم تُعلن بعدُ أرقاماً دقيقة لحركة الزوار الفعلية، بينما تشير تسريبات من داخل وزارة السياحة إلى أن الإقبال التجريبي لم يتجاوز 3 إلى 4 آلاف زائر يومياً، أي أقل كثيراً من الرقم المستهدف (15 ألف زائر).
هذه الفجوة بين الدعاية والواقع تثير التساؤل: كيف لمتحف هو الأضخم في إفريقيا والعالم العربي ألا يجذب جماهير توازي حجم ما أُنفِق عليه؟
أحمد موسى وصناعة الوهم الثقافي
تصريحات أحمد موسى المطالِبة بتدريس “لغة الحضارة المصرية القديمة” في المدارس وتنظيم الرحلات للمتحف تأتي في هذا السياق المربك، إذ يحاول الإعلام المقرّب من السلطة صناعة زخم وطني مصطنع حول مشروع لم يحقق بعد أهدافه الواقعية.
فبدلاً من أن تُطرح أسئلة حقيقية حول أسباب ضعف الحضور، وسوء التخطيط السياحي، وغياب برامج الترويج الخارجية، يتم تحويل النقاش إلى “لغة الهيروغليفية” وكأنها الحل السحري لإحياء السياحة.
الخبير الثقافي الدكتور محمد أبو الغار علّق قائلاً إن “الخطاب الإعلامي الرسمي يحوّل المتحف إلى رمز دعائي لا إلى مؤسسة علمية وثقافية حقيقية، بينما المطلوب هو جذب الباحثين والزوار من خلال محتواه، لا عبر شعارات وطنية سطحية”.
الدولة تكرر أخطاءها: مشاريع كبرى دون خطة تشغيل
المتحف المصري الكبير ليس المشروع الوحيد الذي يعاني من الفجوة بين الحجم الدعائي والعائد الواقعي. فالدولة أنفقت مئات المليارات على مشروعات ضخمة من دون دراسات جدوى واضحة أو استراتيجيات تشغيل مستدامة — من العاصمة الإدارية إلى الطرق والجسور وحتى المتاحف الجديدة.
الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الخالق فاروق (الذي سبق أن انتقد هذه السياسات قبل حبسه) كان قد حذر من “نزعة الدولة إلى الإنفاق التفاخري، التي تُغرق الاقتصاد في الديون دون مردود إنتاجي أو خدمي”.
وبالفعل، فإن تمويل المتحف تم عبر قروض خارجية ستسددها الأجيال القادمة، بينما الحكومة تحاول عبر الإعلام تلميع صورة المشروع وكأنه “نصر حضاري”، متجاهلة أن العائد السياحي لم يظهر بعد.
الزوار: أرقام هزيلة وإجراءات ارتجالية
رغم الوعود الرسمية بأن المتحف سيستقبل خمسة ملايين زائر سنوياً، إلا أن البيانات الواقعية حتى الآن لا تتجاوز مئات الآلاف خلال التشغيل التجريبي، أي نسبة ضئيلة جداً مقارنة بالمستهدف.
ولتعويض هذا الإخفاق، تحاول الدولة عبر الإعلام الموالي خلق حراك داخلي شكلي: رحلات مدرسية إلزامية، زيارات مؤسسات حكومية، واحتفالات متكررة تُبث على القنوات الرسمية.
لكن هذه الإجراءات لا تُعالج أصل المشكلة: تراجع القدرة الشرائية للمواطن المصري، وارتفاع أسعار التذاكر، وضعف التسويق السياحي الخارجي، إضافة إلى تدهور البنية التحتية حول منطقة الأهرامات، رغم أن الحكومة أنفقت أكثر من 519 مليون جنيه لتطوير الطرق والإنارة والمحيط الجغرافي للمتحف.
لغة جديدة لتبرير الفشل
تصريحات أحمد موسى، ومن ورائه الدولة، ليست سوى محاولة لغوية لتبرير فشل سياسي واقتصادي في إدارة مشروع يُفترض أن يكون “فخر المصريين”. فبدلاً من الاعتراف بتراجع الأعداد والإقبال، يتم اللجوء إلى استدعاء “لغة الفراعنة” كرمز ثقافي لتغطية العجز الواقعي.
لكن الزائر لا يُستدرج بالشعارات ولا بالمشاعر الوطنية؛ بل بالخدمة الجيدة، والسعر المناسب، والمحتوى الجاذب.
وما لم تتحول إدارة المتحف المصري الكبير إلى إدارة مستقلة مهنية تُعنى بالعلم والثقافة لا بالبروباغندا، فسيبقى المشروع — رغم فخامته — تمثالاً جديداً من الحجر، يرمز إلى دولة تُنفق المليارات لتُخفي خواء الحضور.

