بينما يعيش آلاف الطلاب في مصر أزمة سكن جامعي حقيقية تتراوح بين ضعف الطاقة الاستيعابية ورداءة الخدمات، خرجت الحكومة بخطة “مريبة” تحمل عنواناً براقاً: تحويل بعض مباني المدن الجامعية إلى منشآت فندقية، “استعداداً للزيادة المتوقعة في أعداد السياح عقب افتتاح المتحف المصري الكبير”، بحسب ما نقل موقع القاهرة 24.

 

لكن خلف هذا العنوان “السياحي” يكمن مشروع أوسع لإعادة توظيف أصول الدولة التعليمية لصالح المستثمرين، في وقت تعاني فيه الجامعات الحكومية من نقص التمويل وتدهور البنية الأساسية.

فهل نحن أمام خطة لتنشيط السياحة؟ أم أمام جولة جديدة من الخصخصة المقنّعة التي تبيع التعليم قطعة قطعة تحت غطاء “التنمية”؟

 

خطة مريبة تتجاوز هدف السياحة

 

بحسب التسريبات، تدرس الحكومة حالياً تحويل بعض مباني المدن الجامعية غير المستغلة في محافظات عدة إلى فنادق، بزعم مواجهة نقص الغرف الفندقية المتوقع بعد افتتاح المتحف المصري الكبير.

 

لكن هذه التبريرات تبدو هشة، إذ تشير بيانات وزارة السياحة إلى أن الطاقة الفندقية في القاهرة وحدها تجاوزت 80 ألف غرفة بعد افتتاح عشرات الفنادق الجديدة خلال السنوات الأخيرة، بينما معدل الإشغال لم يتجاوز 65% في ذروة الموسم.

 

فأين الأزمة إذن؟ ولماذا تتجه الحكومة إلى تحويل منشآت تعليمية إلى مشاريع استثمارية في حين لا تزال آلاف الأسر عاجزة عن إيجاد سكن جامعي لأبنائها في القاهرة والإسكندرية والمنصورة وأسيوط؟

 

الخبير الاقتصادي ممدوح الولي يرى أن “الحكومة لم تعد تفرّق بين المرافق الخدمية والمشروعات الربحية، فكل شيء أصبح سلعة قابلة للبيع أو التأجير؛ من المستشفيات إلى المدارس، والآن جاء الدور على المدن الجامعية”.

 

خصخصة مقنّعة تحت غطاء التنمية

 

الخطير في هذه الخطوة أنها ليست حالة استثنائية، بل تأتي في سياق متكامل من السياسات التي تدفع باتجاه خصخصة أصول الدولة عبر ما يسمى بـ“التطوير بالشراكة مع القطاع الخاص”.

 

ففي العام الماضي، أصدرت الحكومة قرارًا يسمح للقطاع الخاص بإدارة وتشغيل بعض المرافق العامة “غير الحيوية”، وهو ما تم تفسيره بأنه تمهيد لتصفية ملكية الدولة تدريجيًا.

 

الخبير الاقتصادي الدكتور حازم عبد العظيم وصف هذه التوجهات بأنها “خصخصة ناعمة تُنفّذ دون ضجيج سياسي، عبر نقل الإدارة والانتفاع إلى المستثمرين، بينما تحتفظ الدولة بالملكية الشكلية فقط”.

 

تحويل المدن الجامعية إلى فنادق ليس سوى حلقة جديدة في هذا المسلسل، إذ يتم استغلال البنية التحتية التي بُنيت بأموال الشعب لتتحول إلى مشاريع تجارية، بينما يُترك الطالب في الشارع يبحث عن غرفة بأسعار خيالية.

 

الطالب الخاسر الأول

 

في الوقت الذي تبرر فيه الحكومة خطتها بـ“عدم استغلال بعض المباني”، تشير تقارير رسمية إلى أن نحو 60% من المدن الجامعية تعمل فوق طاقتها الاستيعابية، وأن آلاف الطلبة يُرفض تسكينهم سنويًا بسبب نقص الأماكن.

 

فكيف يمكن التوفيق بين “نقص الأماكن” و“وجود مبانٍ غير مستغلة”؟

 

الحقيقة أن بعض تلك المباني متوقفة بسبب غياب الصيانة أو التمويل، وليس لأنها “زائدة عن الحاجة”.

 

بدلاً من تخصيص ميزانيات لإصلاحها وتوسيع القدرة الاستيعابية للطلاب، قررت الحكومة تحويلها إلى استثمار سياحي مؤقت، متجاهلة أن هؤلاء الطلاب أنفسهم هم مستقبل الاقتصاد والسياحة والتعليم.

 

الخبير التربوي الدكتور كمال مغيث وصف القرار بأنه “خطوة لخصخصة التعليم من بابه الخلفي، وتحويل الجامعات إلى مشاريع استثمارية تخدم رجال الأعمال أكثر مما تخدم الطلاب”.

 

منطق السوق يبتلع كل شيء

 

هذه السياسة ليست وليدة اللحظة، بل امتداد لنهج تتبعه الدولة منذ سنوات، حيث يتم التعامل مع الأصول العامة بمنطق “التسليع” — أي تحويل كل ما هو خدمي إلى سلعة تجارية.

 

ففي الوقت الذي تُغلق فيه مدارس حكومية بحجة ضعف الإقبال، تُمنح الأراضي لمستثمرين لبناء مدارس دولية بأسعار خيالية.

 

وفي قطاع الصحة، أُغلقت مستشفيات عامة بدعوى التطوير، لتُمنح لاحقًا لشركات خاصة لإدارتها.

 

الآن، يتكرر المشهد نفسه في الجامعات: مبانٍ مملوكة للدولة تُعاد توظيفها لصالح المستثمرين تحت لافتة “الاستثمار الأمثل للأصول”.

 

من التعليم إلى “البزنس”.. كل شيء للبيع

 

تحويل المدن الجامعية إلى فنادق ليس استثمارًا ولا “استغلالًا رشيدًا للأصول” كما تروّج الحكومة، بل انسحاب تدريجي من مسؤولية الدولة تجاه التعليم العام.

 

إنه تحوّل خطير من مفهوم “الخدمة العامة” إلى مفهوم “العائد المالي”، ومن “الطالب” إلى “الزبون”، ومن “المبنى التعليمي” إلى “الفرصة العقارية”.

 

ففي دولة تعاني من ارتفاع الديون الخارجية وتراجع الخدمات العامة، يصبح بيع الأصول أو تأجيرها هو الطريق الأسهل لتوفير العملة الصعبة — ولو على حساب مستقبل الشباب.

 

وإذا لم يتوقف هذا النهج، فربما نستيقظ يوماً لنجد أن الجامعة نفسها تحولت إلى منتجع سياحي، وأن “العلم” صار مجرد لافتة على بوابة مشروع استثماري جديد.