يعاني نظام التعليم في مصر من أزمة هيكلية عميقة تهدد مستقبل أجيال بأكملها، وتعيق أي محاولة جادة لتحقيق التنمية المستدامة. فعلى الرغم من الوعود المتكررة بالإصلاح، تتفاقم المشكلات عامًا بعد عام، بدءًا من البنية التحتية المتهالكة والمناهج الدراسية التي لا تواكب العصر، وصولًا إلى فوضى التعديلات الوزارية وغياب الكفاءة في إدارة المدارس.
وقد أدى هذا التدهور إلى تراجع مكانة مصر في مؤشرات جودة التعليم العالمية، حيث احتلت مراكز متأخرة للغاية، مما دفع العديد من الخبراء إلى دق ناقوس الخطر، والمطالبة بخطة إنقاذ وطنية عاجلة، تكون قادرة على انتشال المنظومة التعليمية من حالة الانهيار التي وصلت إليها. إن الفشل في معالجة هذه الأزمة لا يهدد فقط مستقبل الطلاب، بل يهدد أيضًا النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدولة بأكملها، ويجعل التعليم الجيد حكرًا على القادرين ماديًا.
مشاكل بنيوية: مدارس مكدسة وبنية تحتية منهارة
تعتبر المشاكل البنيوية من أبرز التحديات التي تواجه التعليم في مصر، حيث تعاني المدارس الحكومية من نقص حاد في التمويل، مما أدى إلى تهالك الأبنية التعليمية وعدم صلاحيتها في كثير من الأحيان لاستقبال الطلاب. وتتفاقم الأزمة مع ظاهرة التكدس الطلابي داخل الفصول، التي وصل فيها عدد التلاميذ في بعض الأحيان إلى مستويات غير إنسانية، مما يجعل عملية التعلم شبه مستحيلة.
هذا النقص في الموارد لا يقتصر على المباني فقط، بل يمتد ليشمل المرافق والتجهيزات الأساسية، من معامل ومكتبات وأدوات تعليمية حديثة، مما يحرم الطلاب من فرصة التفاعل والتطبيق العملي لما يتعلمونه. ورغم اعتراف وزارة التربية والتعليم بهذه المشكلات، إلا أن الحلول المقترحة تظل قاصرة عن مواجهة حجم الكارثة، في ظل تراجع الإنفاق الحكومي على قطاع التعليم.
ويرى الدكتور طلعت عبد الحميد، أستاذ أصول التربية بكلية التربية بجامعة عين شمس، أن "التذبذب الواضح للسياسة التعليمية من الأسباب الرئيسية لفشل منظومة التعليم في مصر، والتي ترتبط بوجود وزير وتنتهي مع وزير آخر لتبدأ خطط جديدة بفكر مخالف".
المناهج الدراسية: تدمير للعقول بدلاً من بنائها
تمثل المناهج الدراسية حجر الزاوية في أي عملية تعليمية، ولكنها في مصر تحولت إلى عبء على الطلاب وأولياء الأمور على حد سواء. فالمناهج الحالية لا تزال تعتمد على الحفظ والتلقين، وتفتقر إلى المهارات النقدية والتحليلية التي يحتاجها سوق العمل الحديث. كما أنها منفصلة تمامًا عن واقع المجتمع المصري وتحدياته، ولا تسهم في بناء هوية وطنية حقيقية لدى الطلاب.
وتزيد من تعقيد المشكلة، التغييرات العشوائية والمستمرة في المناهج، التي تتم دون دراسة كافية أو حوار مجتمعي، مما يضع الطلاب والمعلمين في حالة من الإرباك الدائم. وقد أدت هذه السياسات إلى ظهور مناهج "ركيكة" وغير مناسبة للمراحل العمرية للطلاب، كما حدث في منهج الصف الرابع الابتدائي الذي أثار جدلاً واسعاً بسبب حجمه وتعقيده.
وينتقد الخبير التربوي أحمد سلامة المناهج الجديدة قائلاً إنها "لم تربط الطفل بمعطيات ومشكلات مجتمعه نهائيًا"، واصفًا إياها بأنها "ركيكة" و"لا تصلح لطفل في عمر من 4 لـ8 سنوات، لأنها لا تتضمن نوع من مواكبة التطور التكنولوجي".
فوضى التعديلات: غياب الرؤية والاستراتيجية
تعد فوضى التعديلات الوزارية وغياب استراتيجية وطنية واضحة ومستقرة، من أهم أسباب فشل خطط إصلاح التعليم في مصر. فمع كل وزير جديد، يتم التخلي عن خطط سلفه والبدء من نقطة الصفر، مما يهدر الموارد والجهود، ويجعل المنظومة التعليمية تسير في حلقة مفرغة من التجارب الفاشلة.
وقد أدى هذا التخبط إلى عدم استقرار السياسات التعليمية، وفقدان الثقة بين المجتمع والمنظومة التعليمية. فعلى سبيل المثال، تم اقتراح نظام "البكالوريا" كبديل للثانوية العامة، لكنه قوبل بانتقادات واسعة من الخبراء الذين رأوا أنه غير ناضج، ولا يتوافق مع المعايير الدولية، ولم تتم مناقشته بشكل كافٍ. هذه الفوضى في اتخاذ القرارات المصيرية، تؤكد غياب الرؤية الشاملة لدى الحكومة، وعدم جديتها في التعامل مع ملف التعليم باعتباره قضية أمن قومي.
ويؤكد الدكتور عاصم حجازي، أستاذ علم النفس التربوي المساعد، أن "المقترح الحالي (البكالوريا) يحتاج إلى نقاشات موسعة وتنقيح شامل؛ لضمان تحقيق الفائدة المرجوة للعملية التعليمية، مع الأخذ بعين الاعتبار التحديات الواقعية التي تواجه التعليم في مصر".
عدم كفاءة المدارس: تدهور دور المعلم وانتشار الدروس الخصوصية
أدى تدهور أوضاع المعلمين المادية والاجتماعية إلى تراجع كفاءة المدارس الحكومية بشكل كبير. فمع تدني الرواتب، وضعف برامج التدريب والتأهيل، أصبح المعلم غير قادر على أداء رسالته على أكمل وجه، مما فتح الباب على مصراعيه أمام ظاهرة الدروس الخصوصية، التي أصبحت تمثل عبئًا ماديًا كبيرًا على الأسر المصرية. وقد تحولت الدروس الخصوصية إلى نظام تعليمي موازٍ، يستنزف موارد الأسر، ويعمق الفجوة بين الطلاب القادرين وغير القادرين.
وفي ظل غياب الرقابة والمحاسبة، أصبحت المدارس الحكومية مجرد مكان للحضور الشكلي، بينما يتم التحصيل الدراسي الفعلي في مراكز الدروس الخصوصية. إن إهمال الحكومة لدور المعلم، وعدم توفير بيئة عمل مناسبة له، هو السبب الرئيسي وراء تدهور العملية التعليمية بأكملها.
ويوضح الخبير التربوي حسان أن "جودة التعليم الحكومي ترتبط بزيادة رواتب المعلمين، وضمان استقرارهم الوظيفي، وتشجيعهم على الإبداع، وتنمية مهاراتهم بشكل دوري، ومن تداعيات أزمة نقص المعلمين أنها تمثل سبباً أساسياً لانتشار الدروس الخاصة".

