في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب، تتقاطع فيها الحروب المفتوحة مع الصراعات المؤجلة، تبدو التحركات الإسرائيلية في محيط البحر الأحمر والقرن الأفريقي أبعد من كونها مواقف دبلوماسية عابرة، وأقرب إلى إعادة هندسة خريطة النفوذ في واحدة من أخطر مناطق العالم. فالممرات المائية لم تعد مجرد طرق للتجارة، بل تحولت إلى أدوات ضغط سياسي وأمني واقتصادي، تستخدمها القوى الإقليمية والدولية لتطويق الخصوم وفرض معادلات جديدة.
في هذا السياق، يكتسب مقال مصطفى عبد السلام، رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة العربي الجديد، أهميته بوصفه قراءة تحذيرية تكشف أبعاد تهديد مستجد لا يستهدف دولة بعينها فحسب، بل يمس الأمن القومي العربي برمته، وفي القلب منه مصر وقناة السويس.
تهديد يتجاوز الهجمات المباشرة
يقول مصطفى عبد السلام إن المنطقة تواجه تهديدًا جديدًا للأمن القومي العربي وللدولة المصرية تحديدًا، وكذلك لقناة السويس، أهم ممر مائي في العالم، إضافة إلى تهديد الملاحة والتجارة في البحر الأحمر والدول المشاطئة مثل اليمن والسودان. ويؤكد أن هذا الخطر لا يأتي هذه المرة من هجمات الحوثيين على السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي أو أعلام الدول الداعمة لحرب الإبادة على غزة، ولا من تجدد نشاط القرصنة في القرن الأفريقي وبحر اليمن وسواحل الصومال.
بل إن التهديد، وفق المقال، ينبع من إعلان إسرائيل اعترافها الرسمي بإقليم أرض الصومال، أو “صوماليلاند”، غير المعترف به دوليًا، كدولة مستقلة وكيان منفصل عن الصومال. ويصف عبد السلام هذه الخطوة بأنها سابقة خطيرة من شأنها إشعال صراع الهيمنة والنفوذ في منطقة بالغة الحساسية، ترتبط مباشرة بالممرات المائية العالمية، وحركة الشحن، وأسواق النفط والغاز.
اعتراف يحمل أبعاد الهيمنة والسيطرة
يرى الكاتب أن خطورة الاعتراف الإسرائيلي لا تكمن في بعده السياسي الرمزي فقط، بل فيما قد يترتب عليه من تدشين تحالف إسرائيلي–إثيوبي يسعى للسيطرة على الملاحة وحركة التجارة في جنوب البحر الأحمر وباب المندب. ويشير إلى أن هذا المسار قد يفضي إلى خنق سلاسل الإمدادات بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وتطويق مصر من الجنوب، وتهديد قناة السويس بشكل مباشر.
ويشدد عبد السلام على أن هذا الاعتراف لا يمكن النظر إليه كحدث عابر، بل كخطوة استراتيجية في إطار سعي قوى إقليمية ودولية، من بينها دولة الاحتلال، لإعادة رسم خرائط النفوذ في البحر الأحمر وخليج عدن، والسيطرة على طرق التجارة الدولية والممرات المائية، وتحويل جنوب البحر الأحمر إلى بؤرة توتر دائمة، بما يفتح الباب أمام أزمات اقتصادية وتجارية ومخاطر جيوسياسية وأمنية وبحرية متصاعدة.
قرن أفريقي مشتعل بالصراعات
ويضع المقال هذا التحرك الإسرائيلي في سياق إقليمي مضطرب، حيث تحيط بالمنطقة بؤر صراع من كل جانب. فهناك حرب طاحنة في السودان منذ أبريل 2023، وخلافات مصرية–سودانية مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، إلى جانب توترات إقليمية بين إثيوبيا وإريتريا والصومال، مرتبطة بالسعي للوصول إلى البحر الأحمر وأسواق العالم.
ويشير الكاتب إلى أن إثيوبيا، بوصفها دولة حبيسة، تسعى لكسر عزلتها الجغرافية والحصول على منفذ بحري سيادي، وهو ما ترفضه كل من الصومال وإريتريا، فضلًا عن تجدد النزاع التاريخي بين أديس أبابا وأسمرة بسبب تعقيدات ما بعد اتفاق 2018. كما لا يغفل عبد السلام الخلافات الحادة بين الصومال وأرض الصومال منذ إعلان الإقليم انفصاله عام 1991، مع قرع طبول الحرب بين الحين والآخر في القرن الأفريقي، إضافة إلى الوضع الهش في ليبيا، والانقلابات والقلاقل العسكرية في عدد من الدول الأفريقية القريبة من بؤرة التوتر.
اليمن وباب المندب في قلب العاصفة
وعلى الضفة الشرقية للبحر الأحمر، تتواصل الحرب اليمنية منذ مارس 2015، مصحوبة بمشاريع إقليمية لتقسيم اليمن وفصل شماله عن جنوبه، ومحاولات للسيطرة على ثرواته وسواحله وموانئه. ويشير المقال إلى أن الصراع بلغ ذروته في مطلع ديسمبر 2025، عقب سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا على أهم محافظات شرقي اليمن الاستراتيجية، التي تربط البحر الأحمر وباب المندب بالبحر العربي وخليج عدن.
وفي موازاة ذلك، يلفت عبد السلام إلى وجود صراع مكتوم بين إيران وإسرائيل قابل للانفجار في أي لحظة، ما يزيد من هشاشة المشهد الإقليمي، ويجعل أي تحرك أحادي في هذه المنطقة الحساسة بمثابة صبّ للوقود على نار مشتعلة أصلًا.
خطوة محسوبة لا اعترافًا شكليًا
في هذا المناخ المتوتر، يؤكد الكاتب أن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال خطوة بالغة الخطورة، وأن تل أبيب لا تسعى إلى “شو” إعلامي أو مجرد اعتراف متبادل أو علاقات دبلوماسية مع إقليم غير معترف به دوليًا. فهي تدرك، بحسب المقال، أن غالبية دول العالم، وآخرها الصين، لا تعترف بأرض الصومال دولة مستقلة.
ويرجح عبد السلام أن الهدف الحقيقي يتمثل في “تلغيم” المنطقة الاستراتيجية وتفجيرها، والسعي للسيطرة على جنوب البحر الأحمر والتحكم في مضيق باب المندب وإدارته بما يخدم المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية الإسرائيلية، ويمنح تل أبيب أوراق ضغط قوية على دول المنطقة، وفي مقدمتها مصر واليمن والسودان ودول الخليج.
ويحذر من أن هذا التحرك الأحادي يفتح الباب واسعًا أمام عسكرة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وإعادة تشكيل موازين النفوذ على نحو يهدد الأمن القومي العربي، وفي القلب منه الأمن القومي المصري.
خاتمة تحليلية
تخلص هذه القراءة في مقال مصطفى عبد السلام إلى أن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ليس حدثًا معزولًا، بل حلقة ضمن استراتيجية أوسع لإعادة صياغة خرائط النفوذ في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية. ومع تراكم الصراعات في السودان واليمن والقرن الأفريقي، يصبح البحر الأحمر مسرحًا مفتوحًا لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، ما يفرض على الدول العربية، خصوصًا مصر، قراءة هذه التحركات بوصفها تهديدًا طويل الأمد، لا يقل خطورة عن الحروب المباشرة، ويتطلب استجابة جماعية تتجاوز ردود الفعل المؤقتة إلى بناء رؤية استراتيجية شاملة لحماية الأمن القومي العربي وممراته المائية الحيوية.

