مع انطلاق انتخابات مجلس النواب 2025، برز الخطاب الديني الرسمي بدعواته للمشاركة باعتبارها “شهادة واجبة شرعًا”، مستخدمًا نصوصًا دينية عامة حول الأمانة والصدق، دون الإشارة إلى البيئة السياسية والقانونية المحيطة بعملية الاقتراع. هذا التناول يُبرز فجوة بين الخطاب الأخلاقي الفردي والواقع السياسي المقيد، حيث تُمارَس الانتخابات في سياق قانوني وأمني ضاغط، ما يُضعف من شرعية المشاركة ويُحولها إلى فعل رمزي لا يُترجم بالضرورة إلى إرادة حرة.

 

دعوة دينية موجهة للفرد لا للسلطة

 

في سياق الانتخابات، ركّزت مؤسسات دينية رسمية، مثل دار الإفتاء، على تشجيع الأفراد للمشاركة في التصويت بوصفه “واجبًا شرعيًا”، محذرة من التزوير أو انتحال الشخصيات. ورغم أن هذه الدعوات تبدو محايدة في ظاهرها، فإنها تصدر من داخل جهاز ديني يعمل في ظل ضبط سياسي صارم، يجعل من “تكليف الفرد” أداة أخلاقية مُرحب بها، بينما يُهمّش أي حديث عن “واجب الدولة” في ضمان النزاهة، ومكافحة التزوير، أو حماية الحريات السياسية.

 

قوانين تقيد المجال العام وتضعف المشاركة

 

يترافق الحث الديني على التصويت مع منظومة قانونية تقيّد الحق في التعبير والمشاركة، من أبرزها:

 

- قانون التظاهر (107 لسنة 2013): يمنح الدولة صلاحيات فضفاضة لحظر التجمعات السلمية، ويُجرم الاحتجاج دون إذن، ما يُعطل أي حراك مدني مرتبط بالانتخابات.

 

- قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (175 لسنة 2018): يُستخدم لحجب المواقع وتقييد حرية النشر، ما يصعب من تداول المعلومات السياسية وانتقاد السلطة.

 

هذه التشريعات لا تنسجم مع مقاصد الشريعة كما تقرها المادة الثانية من الدستور، التي تعتبر العدل وصيانة الحقوق من المرتكزات الأساسية للتشريع. فكيف يمكن اعتبار “المشاركة الانتخابية” واجبًا شرعيًا، في ظل بيئة قانونية تمسّ بحرية الاختيار والمساءلة؟

 

ممارسات انتخابية تقوض الثقة

 

لا تتوقف المشكلة عند القانون، بل تمتد إلى التطبيق العملي. فبحسب تقارير حقوقية، تُصاحب العملية الانتخابية في مصر منذ سنوات:

 

- اعتقالات لمرشحين مستقلين أو معارضين.

 

- تضييق على حملات تأييد أو جمع التوقيعات.

 

- استخدام المال السياسي وتأثير الأجهزة الأمنية.

 

هذه الممارسات تمس جوهر الانتخابات، وتُفرغ التصويت من مضمونه الحقيقي، إذ لا يمكن الحديث عن مشاركة “شرعية” أو “أخلاقية” في سياق تُفتقد فيه العدالة وتُهمّش فيه الإرادة الشعبية.

 

الخطاب الديني الرسمي وصمته عن “واجبات الدولة”

 

رغم أن النصوص الدينية تُحمّل الجميع مسؤوليات أخلاقية، فإن الخطاب الديني الرسمي في مصر يركّز غالبًا على “الفرد”، ويتجاهل “السلطة”. فلا حديث عن التزوير، أو الإقصاء السياسي، أو العدالة الانتخابية، بل يُختزل الدين في حثّ الناس على التصويت، حتى في ظل مناخ لا يسمح بالتنافسية أو الشفافية.

 

هذا التحيّز لا يُعبّر عن جوهر الشريعة التي تُعلي من شأن العدل، بل عن علاقة سياسية تحكم المؤسسات الدينية وتُوجه خطابها، بما يخدم أولويات الدولة لا مصالح المجتمع.

 

نحو خطاب متوازن يربط الواجب بالمناخ السياسي

 

المشاركة في الانتخابات لا تكون “شهادة شرعية” مكتملة إلا إذا اقترنت ببيئة تسمح بالاختيار الحر، وتحترم إرادة الناخب، وتحاسب المزور، وتكفل تكافؤ الفرص. أما حث الناس على التصويت دون الحديث عن هذه الشروط، فهو خطاب ناقص يُستخدم أحيانًا لتزيين مشهد سياسي فاقد للمصداقية.

 

ينبغي أن يُعاد توجيه الخطاب الديني ليشمل الحقوق والواجبات على حد سواء، وأن يُطالب بإصلاح القوانين المقيدة، وضمان الشفافية، لا أن يتحول إلى أداة تبرير لواقع لا يُعبّر عن قيم الشريعة ولا عن تطلعات المواطنين.